طريق العقل، كما نراه على أكمله في الإنسان.
وطريق الغريزة، كما نراها على أكملها في الحشرات.
وكل من العقل والغريزة قد نشأ لمصلحة الحيوان للبحث عن الطعام وطلب الأنثى والهجوم والدفاع ونحو ذلك. ولكن نحن نرى الآن أننا قد صار لنا من هذا العقل الوضيع ذهن فلسفي يستطيع أن يتجرد من مطالب الطعام واللقاح إلى التفكير في الكون منشأ وغاية. وإذن - يتساءل «برجسون» - لماذا لا يكون في مقدور الإنسان أن يستخرج من غرائزه بصيرة يستطيع أن يكشف بها الحقائق كشفا لدنيا بلا عناء ولا تفكير، كما تهتدي الحشرة إلى فريستها أو أنثاها بلا تفكير أو تدبر؟
والغرائز كامنة في الإنسان قد تغلب عليها العقل، ولكن يمكن إحياؤها في أي وقت واستنباط البصيرة الفلسفية منها. وهذا هو النظر الصوفي على أقصاه وأبلغه. وهو أيضا نظر طائفة من الأدباء الذين يحاولون تجديد الدين، وفي مقدمة هؤلاء «برنارد شو»، فإن هذا الأديب يخاف العلم خوفا حقيقيا مع أنه يرى فيه الرجاء لتحقيق السعادة بتوفير الخيرات للناس؛ فهو لذلك ينذر الناس بأن مصيرهم إلى الفناء والدمار إذا لم يعتمدوا في حياتهم على الدين. ولذلك حمل حملته المنكرة على «داروين»؛ لأنه كما يقول «بطلر» قد ألغى العقل من الكون، ووضع تنازع البقاء وبقاء الأصلح مكانه، فكأنه بذلك قد جعل القتال والحروب والتناحر والمزاحمة إلى الموت سننا، أو نواميس، قد شرعتها لنا الطبيعة، فلا بأس من أن نسير فيها. وهذا هو الدمار.
والخوف من تقدم العلوم، والحذر منها، إذا لم يرافقها دين، يتضح في جميع ما كتبه «شو» و«ولز»؛ فقد كتب هذا الثاني جملة مؤلفات عن الله والدين ولكنه ألحد أخيرا، وسكن إلى الإلحاد على الرغم منه. وأصبح يشبه القائلين بالبشرية - أي الإيمان بالإنسانية فقط - أصلا وغاية، ويعمل لرقيها. ولكنه مع إلحاده هذا يدعو إلى الدين البشري لأنه يخاف مادية العلم، وأن يؤدي تقدمه إلى زيادة التنازع والتناحر فيقضي هذا التقدم على الحضارة.
وهنا يجوز لنا أن نتساءل: هل الباعث الحقيقي إلى هذا الاهتمام بالدين عند «بطلر» و«ولز» و«برجسون» هو الاصطدام بحقيقة لا يمكن الهروب منها، أو هو الرغبة الحارة في إيجاد عواطف دينية رحيمة توازن المنطق العلمي القاسي؟
لندع هذا الآن. ولكن يجب أن نقرر هنا أن هذا المنطق العلمي ينطوي على قسوة تكاد تدفع بالإنسان إلى الفرار منه إلى أية عقيدة يتماسك بها كيان المجتمع ولو كانت كاذبة، فقد عبر «برتراند روسل» عن هذا المنطق العلمي أحسن تعبير في كتابه «طوالع العلم» فوصف كيف يكون الناس حين يستفيض الروح العلمي ويسود الحكومة والتعليم والنظام عامة، فإذا به يخرج بعد هذا بجهنم متقنة الوضع محبوكة الأطراف، حيث يتغلب العبقريون ويتزاوجون فيما بينهم فتكون منهم سلالة منفصلة في بناء الجسم والعقل تستبد بالعامة وتحرم على أفرادها التعمق في درس العلوم ... إلخ.
هذا المنطق القاسي الذي يخيف الأدباء في إنجلترا وغير إنجلترا هو الذي يدفعهم إلى تجارب دينية جديدة غير بصيرة «برجسون». فمن ذلك هذه الثقافة الجديدة التي تفشت في الأوساط المتعلمة في أوروبا عن درس الأديان الشرقية، وخاصة البوذية والهندوكية. ومن ذلك أيضا هذه الحماسة أو هذا التلهف لدرس الطبيعيات الجديدة على يد «جينز» و«أدنجتون» العالمين الإنجليزيين اللذين يقولان بأن وراء الكون فكرا مدبرا، ويجنحان إلى غيبيات «عصرية» تشبه غيبيات «أفلاطون» من حيث أن وراء المادة فكرة.
ولم يبلغوا بعد نهاية هذه التجارب. فمنهم المؤمن القديم، ومنهم الذي يوهم نفسه بأنه يؤمن بإيمان جديد. ومنهم المتردد، ومنهم الملحد الذي سكن إلى إلحاده سكون اليأس. ثم منهم أخيرا «البشري» الذي يسكن إلى ديانة بشرية ليس فيها شيء من الغيبيات؛ إذ هي مجموعة الجهد البشري للرقي لا أكثر.
ولكن لن نفهم الحركة التجديدية في إنجلترا بل في عالم الثقافة الأوروبية حتى نولي هذه الأفكار بعض انتباهنا.
Halaman tidak diketahui