ونشأ من هذين العاملين - أي مادية النهضة الاقتصادية، وروح التقشف الديني - نزوع في الأمة إلى لزوم العرف وكراهة البدع؛ لأن المجتمع الإنجليزي كان مستقرا متفائلا، مؤمنا بالتقدم الذي أحدثه ارتقاء الآلات الصناعية وتوسع الصناعة والاستعمار فاستقر الأدب الإنجليزي لذلك وجمد.
ولكن في أواخر القرن التاسع عشر شرع المجتمع الإنجليزي يتقلقل بالتعطل والتفاوت الفاحش بين الغنى والفقر، وشرع الأدب يتقلقل أيضا. وأصبح القصصي، كي يتجنب النقد، يعمد إلى خياله ويبتعد عن الواقع ما استطاع ذلك. وحركة التجديد التي قامت عقب العصر الفكتوري هي في لبابها ثورة على هذا الأدب الخيالي الفكتوري السخيف الذي لم يعد ينطبق على حقائق الحياة.
وقد رأينا كيف أن الروح المادي قد أتلف ذهن المؤرخ «ماكولي» فجعله ينسى إنسانيته ويحتقر الهنود. ويبعثه زهو الثروة والنجاح المالي والتوسع الإمبراطوري على أن يؤلف تاريخا للإنجليز يرفعهم فيه إلى مقام الآلهة ويزهو فيه بعظمتهم.
وإلى جانب «ماكولي» نجد رجلا آخر يغمر تاريخ الملكة فكتوريا بشخصيته، هو «كارليل» الذي مات في 1881، فإن الروح الديني أتلف ذهنه كما أتلف الروح المادي ذهن «ماكولي»، فاستحال واعظا بعد أن كان يرجى منه أن يكون أديبا، وخاصة إذا اعتبرناه وقد بدأ حياته بتأليف كتاب عن الثورة الفرنسية (1889) وكان الطراز الأعلى للأدب عنده ذلك العظيم الألماني «جوته»، فإذا كان درس الثورة الفرنسية ورجال الذهن الذين هيئوا لها، ثم التتلمذ لجوته لا يخرج للناس أديبا عظيما، فلا بد أن يكون هناك عند «كارليل» حاجز صفيق لا تستطيع بصريته أن تنفذ منه. ولنضرب لذلك مثلا مقابلة بين «جوته» و«كارليل» في موضوع معين عالجه كل منهما.
فقد عالج «جوته» موضوع الواجب، وكيف يجب أن نعمل في الدنيا فلا نترك ساعة من حياتنا حتى نملأها بعمل مفيد. ولما مات ابنه الوحيد حزن عليه ولكنه لم يجزع ولم يستسلم للكمود والهمود، بل نفض عن نفسه الحزن وهب إلى العمل. ولكن ماذا كان يقصد إليه «جوته» من الواجب وكراهة التعطل؟
كان يقصد من ذلك إلى أن تزداد شخصيته عرفانا وقوة فيزداد بذلك حرية واستمتاعا. وكان يرى في الجهل تقييدا، فكان يدرس العلوم والآداب بروح الطالب. وكان يرى في الدعة والانكفاف تضييقا لشخصيته، فكان يختبر كل شيء، ولا يبالي وهو في الثمانين أن يعشق. ولا يمنعه درسه من أن يقوم بأعمال إدارية وسياسية. وقد اندغمت ثقافته في شخصه، فكان يقبل على الدنيا ويلتذ الحياة ويستغل ما كسب من اختبارات ومعارف كي تقوى شخصيته، وكأنه يرى نفسه مركزا أو محورا للكون، فنحن يجب علينا، في رأي «جوته»، أن نكبر من شأن العمل ونقبل عليه، ونؤدي واجبنا فيه كي نستكمل به شخصيتنا ونزيد استمتاعا بالدنيا وفهما لشئونها.
ولكن «كارليل» يدعو إلى الواجب لغاية أخرى انحدرت إليه من المبادئ الطهرية التي شاعت في إنجلترا وصبغتها بالروح الديني، فهو يقول:
نحن هنا على الأرض جنود نحارب في قطر غريب، ولسنا ندري الغاية المقصودة من هذه الحرب، ولسنا في حاجة لأن ندريها، وإنما علينا أن نؤدي ما يجب تأديته. وعلينا أن نؤديه كالجنود بالطاعة والشجاعة وطرب البطولة.
والفرق واضح بين الاثنين، «جوته» سيد أديب و«كارليل» عبد واعظ. وقد تستطيع أن تفضل «كارليل» على «جوته»، وأنت بذلك تفضل النهضة الدينية الإنكارية الانكفافية على النهضة الأدبية الإقدامية الاستمتاعية، كما يمكنك أن تقول إن الوهابيين في كراهتهم للفنون والترف والاستمتاع والالتذاذ، خير من الباريسيين الذين لا يبالون ما يفعلون مما يخالف التقاليد. وأنت حر في هذا النظر، ولكن يبقى بعد ذلك أن تعترف أن في باريس فنونا جميلة وأدبا رائعا، ولكن ليس في الرياض، عاصمة نجد، شيء من ذلك.
والطهريون في إنجلترا هم وهابيو الديانة المسيحية. وقد صبغوا الأدب الإنجليزي بصبغة التقشف في العصر الفكتوري.
Halaman tidak diketahui