أعاصير مغرب اسم صالح لجملة الشعر الذي احتوى هذا الديوان؛ لأنه نظم وعالم الدنيا مضطرب بأعاصيره، وعالم النفس مضطرب بأعاصيره، ومنه ما يشبه الأعاصير التي هزت كيان «الشيخ» هاردي، فتمنى من أجلها ذبولا في القلب كذبول إهابه.
ورأيي في الغزل الذي نظمه هاردي بين السبعين والثمانين ليس بالرأي الحديث، فلم أعجب به اليوم؛ لأنني صاحب ديوان بعد «وحي الأربعين»، بل أعجبت به؛ لأنني كنت أرى في زمن الفتوة أن الشعور والتعبير لا ينتهيان بانتهاء الشباب، ومتى بقي الشعور والتعبير، فما الذي فني من مادة الغزل والغناء؟
واتفق منذ بضع عشرة سنة أنني كتبت في هذا المعنى،
1
وأن كتابتي فيه كانت بصدد الكلام عن هاردي الذي أوحى إلي اليوم اسم ديواني الجديد، فأثنيت على غزله أجمل ثناء، وقلت أجيب الأديب الأستاذ سيد قطب الذي استغرب إجادة هاردي شعر الغزل في السبعين من عمره: «وإن المسألة بعد ليست مسألة نظريات يرجع فيها إلى تباين الآراء والأذواق، وإنما هي مسألة حقيقة لا ريب فيها ولا اختلاف عليها؛ إذ كل ما يجب علينا لنقول إن الشيخوخة تجيد الغزل أحيانا، هو أن نعلم أن توماس هاردي نظم شعر الغزل بعد السبعين، وأن ما نظمه بعد تلك السن كان جيدا مقبولا رضي عنه قراء الشعر واستزادوه، وأنه كان هو من أسباب تلك الشهرة الذائعة التي أحرزها في عالم الشعر بين قراء الأدب الرفيع بعد اشتهاره بالرواية وحدها في سن الشباب. فهل نظم توماس هاردي غزلا جيدا بعد السبعين! نعم. وإذا كانت نعم هي الجواب الذي لا بد منه، فلا حيلة للنظريات ولا لتعريفات الشباب والحب والغزل في نفي هذه الحقيقة المقررة.»
ثم قلت: «على أننا لو فرضنا أن توماس هاردي لم يخلق في هذه الدنيا، ولم يكن بين أيدينا هذا المثل القريب، ولا مثل غيره من الشعراء الشيوخ الذين ساهموا في المعاني الغزلية، وبلغوا فيها بعض الإجادة أو كلها؛ فهل تمنعنا النظريات ومراقبة الظواهر النفسية أن ننتظر المعاني الغزلية بعد انقضاء الشباب؟ أما نحن فنقول: لا؛ لأن الحب شيء والغزل شيء غيره، وإن كان الحب هو موضوع الغزل والمعنى الذي يدور عليه.» «فالحب» عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق، ولسنا نعني الصلة الجسدية التي تنقضي بانقضاء دوافع الفطرة، فإن هذه لا تسمى حبا ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة.
ولكننا نعني الصلة النفسية التي تجمع الفردين معا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة. وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة، وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوروبا وإفريقيا، ثم يعودون من تلك الرحلة إلى حيث كانا سنة بعد سنة، حتى يموت أحدهما، أو يعتاقه عائق لا قدرة له عليه.
فالحب على هذا يستلزم الغزل لا في الإنسان ولا في غيره من الأحياء، وإذا قلنا: لكل حي غزله الذي ينطق بما في نفسه، فليس يسعنا أن نقول إن كل محب شاعر، وإن كل متغزل فنصيبه من الحب مثل نصيبه من الغزل على السواء.
إن الذين يقتلون أنفسهم حبا من غير الشعراء الغزليين أكثر جدا من الذين يبلغون في الحب هذا المبلغ بين أولئك الشعراء. فلا ريب أن الشاعر لا يحسن الغزل بغير حب، ولكن لا ريب كذلك في أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد يعلو حين يهبط الحب، على درجات لا تناسب بينها في العلو والهبوط ...
والشباب هو سن احتدام الشعور وهجوم الحياة، ولكن أي شباب وأي شعور؟ فقد يقضي الفتى أوائل شبابه، ولا معنى للحب عنده إلا أنه «وظيفة فزيولوجية» مبهمة يساق إليها بغير هداية ولا تمييز. وقد يطلب الشريك في الحب، وهو لا يعلم ما الذي يطلبه فيه، وما الذي يأخذه منه وما الذي يعطيه؟ لأن الحب عنده هو جوعة جسدية أو نفسية يشبعها أي شريك يصادقه، ويلفيه على مثل حاله من الرغبة والاشتياق. وقد يكون احتدام شوقه ناقصا من حبه، كما أن احتدام الجوع في الجائع يغنيه بكل طعام حاضر، ويجعل الأكل هو المقصود لذاته، لا الصنف، ولا الطعم الذي يميز ذلك الصنف من سواه.
Halaman tidak diketahui