أما جلنار فإنها مكثت في الغرفة تنتظر في قلق، وقد اشتد اضطرابها لما تتوقعه من نتائج المهمة التي أسندت إلى ريحانة، وأصبحت إذا سمعت حركة أو خربشة خفق قلبها، وحدثتها نفسها أن تخرج من الغرفة لعلها تلهو بشيء، أو تسمع من ريحانة أو الضحاك ما يقوي قلبها، أو يطمئن خاطرها. واستغرقت في الهواجس مدة ثم انتبهت لصوت جمل في الجهة الأخرى من القصر، فاستأنست بصوته؛ لأنه من معسكر حبيبها، ثم تزايد الصوت فهمت بالخروج بهذه الحجة وهي إنما تريد الخروج ضجرا من الانتظار، فوقفت وأصغت، فلم تعد تسمع صوتا، فعادت إلى الفراش وعاد السكوت، فرجعت إلى الإصغاء والقلق، فسمعت بالباب وقع خطوات خفيفة كأنها خطوات حاف، فاستغربت ذلك، ثم ما لبثت أن سمعت نقرا خفيفا على قفل الباب، فنهضت وفتحته وقلبها يدق دقا شديدا، فإذا هي بريحانة، فانبسطت نفسها لرؤيتها. ودخلت ريحانة مسرعة وهي تتعثر بسراويلها المنتفخة، والبغتة بادية في وجهها، فابتدرتها جلنار بالسؤال عما جرى، فضمت أناملها اليمنى إشارة للانتظار، وقالت بصوت خفيض وهي تلهث وتتلفت: «تمهلي يا مولاتي.» ثم أصاخت بسمعها نحو الدار.
فسكتت جلنار وأصغت فلم تسمع شيئا، فنظرت إلى ريحانة نظرة استفهام، فأجابتها وهي تبالغ في خفض صوتها كأنها تتكلم همسا: «لقيت الضحاك وأرسلته في المهمة المعلومة، ومكثت في غرفتي قليلا ثم خرجت إليك وأنا أحاذر أن يراني أحد. وقبل دخولي في هذا الرواق، سمعت مولاي الدهقان يتنحنح على مقربة مني فذعرت وخفت أن يكون قد رآني، فوقفت هنيهة والضوء ضعيف فلم أسمع شيئا، فخلعت نعلي ومشيت حافية على أطراف أناملي حتى جئت إليك، وأنا أخاف أن يكون سيدي الدهقان في أثري، ولكن يظهر أني واهمة.» «أما جلنار، فإنها مكثت في الغرفة تنتظر في قلق، وقد اشتد اضطرابها لما تتوقعه من نتائج المهمة التي ذهبت من أجلها ريحانة ...»
فقالت: «أظنك واهمة؛ لأن والدي لا يبقى ساهرا إلى هذا الوقت. وهبي أنه رآك، فماذا يوجب القلق في رؤيتك؟ أخبريني الآن عن الضحاك ومهمته.»
فقصت عليها أهم ما دار بينها وبينه إلى أن قالت: «وأنا في انتظار رجوعه لأرى ما يكون، ولا ريب عندي أننا وضعنا ثقتنا في محلها؛ لأن هذا العربي - رغم ما يظهر من مجونه وبلهه - ذو أريحية وحماسة، ولا أظن مجونه إلا تصنعا.»
قالت: «وما الذي يدعوه إلى التظاهر بالبله وهو عربي، والعرب أهل الدولة! فلو لم يكن البله سجية فيه، مع ما تدركين من أريحيته، لكان من أكبر رجال الدولة ، وكان في غنى عن هذه الخدمة.»
فأشارت ريحانة برأسها وعينيها أن صدقت مولاتي، ثم قالت: «ومهما يكن من شأنه، فإني واثقة من حميته وصدق خدمته، وسترين، ولكن لا بد من الذهاب إلى غرفتي لأنتظره فيها كما تواعدنا.»
فقالت: «أرى أن أخرج معك فألتقي به عندك، وذلك خير من أن نلتقي في غرفتي وأسلم عاقبة.»
ففهمت ريحانة قصدها، وأومأت إيماءة الاستحسان والطاعة، ولبثت تنتظر خروجها معها، فإذا بها تنهض من الفراش. وكان على اللحاف مطرف من خز أحمر مبطن بالفرو فالتحفت به، فغطاها كلها، ولفت رأسها بشال من الكشمير موشى بالحرير، فلم يبق ظاهرا منها إلا مقدم وجهها. فمشت الماشطة أمامها، وسارتا نحو غرفتها، ولم تخرجا من ذلك الرواق حتى سمعتا هبوب الزوابع، وتنسمتا رائحة الشتاء، فانبسطت نفس جلنار لسبب لا تعلمه، وأرادت أن تخاطب ريحانة بشيء، لكنها صبرت نفسها حتى وصلتا إلى الغرفة، فدخلتا وأغلقت ريحانة الباب وأسرعت في إعداد مقعد لسيدتها، فجلست جلنار ووجهها تجاه المسرجة، ونور السراج يرقصه ما ينفذ إلى الغرفة من بقايا تلك الزوابع.
ولما جلست نزعت الشال عن رأسها، فبان وجهها وقد زاده الدفء رونقا وجمالا، فتأملتها ريحانة وهي في تلك الحالة، وابتسمت ابتسام منذهل بذلك الجمال، ولم تتمالك عن تقبيل رأسها، ثم جثت بين يديها وأخذت في إصلاح بعض ما أفسده الخمار من شعرها وهي تقول: «سبحان الخالق! كيف لا يسحر ذلك الخراساني بهذا الجمال الذي لا مثيل له في خراسان ولا ما وراء النهر؟»
فتنهدت جلنار وسكتت هنيهة، ثم تذكرت شيئا خطر لها حين سمعت هبوب الرياح، واعتزمت أن تصارح ماشطتها به، فقالت: «شعرت يا ريحانة ونحن قادمتان الآن براحة وطمأنينة لسبب لا أعلمه.»
Halaman tidak diketahui