فأعجب خالد بذلك الجواب وسره وجود مثل هذا الرجل في بلاط الخليفة؛ لعله يحتاج إليه في شيء. وكان ميالا إلى الاعتقاد بمهارته؛ لأنه تنبأ له بمنصب الوزارة، ولكنه خشي إذا طلب إليه قراءة ما في ضميره أن يصرح بأمور لا يرضاها المنصور، والفرس لم تكن تخلو أفكارهم يومئذ من شيء على آل العباس، فأحب تأجيل ذلك لخلوة يخلو بها معه. والتفت خالد إلى المنصور فرآه يشير بالانصراف ، فرجعوا وقد رسخ في أذهانهم صدق ذلك الزاهد في أقواله، وكرامته في استطلاع الخفايا، وأوصى المنصور الربيع ألا يأذن لأحد بمقابلته. وظل صالح وحده وهو يظهر من الضعف قوة، وقد سره أن يكون الممتحن خالد بن برمك؛ لأنه مطلع على كثير من أحواله، ويعرف صوته، وخالد لم يخطر بباله أنه الضحاك الذي رآه في منزل دهقان مرو منذ بضع سنين؛ لاعتقاده أنه قتل مع ابن الكرماني.
أما خالد فاشتغل خاطره بالزاهد، وأراد مقابلته على انفراد لحاجة في نفسه يريد أن يسأله عنها، فلما سمع الخليفة يوصي الربيع بمنع الناس عنه تقدم إليه أن يأذن له بمقابلته، فقال للربيع: «امنع الناس كافة إلا خالدا.» لأنه كان يحبه، ويثق به، ويعتمد على آرائه.
فسر خالد بهذا الإذن، وبادر في صباح الغد فدخل على صالح فحياه، فرحب به صالح وأثنى عليه، وبشره ومناه استجلابا لرضاه عنه، واستدناه لاعتقاده به، فجلس خالد بين يديه وقال: «لقد جئت إليك في أمر يهمني الاطلاع عليه، فإذا كشفته فرجت كربة كثيرين.»
فقال صالح: «قل؛ لعلي أستطيع ذلك، بإذن الله.»
فقال خالد: «لي صديق وقع في مشكلة لا دخل لها في السياسة أو الحرب، وإنما هي تتعلق بشخصه وشخص آخر يحبه، ولكنه لم يعد يعرف مكانه، وهو يحب أن يعرفه.»
فمد صالح يده حتى قبض على يد خالد وقال: «صرح لي أو أعطني أثرا من آثار ذلك الحبيب فأعرفه.»
فقال خالد: «لا سبيل لي إلى شيء من آثاره، ولكنني أزيدك تصريحا. أتعرف أبا مسلم الخراساني؟»
فاستبشر بذكر اسمه لعله يستفيد من حديث خالد عنه بما يعينه على الفتك به، فقال: «ومن لا يعرف صديقك أبا مسلم؟!»
فقطع خالد كلامه قائلا: «لا تقل صديقك؛ لأن الخليفة ثائر عليه وقد اتهمه، وأرجو ألا تكون لي يد في هذه التهمة؛ ولذلك قلت إنه سؤال لا علاقة له بالسياسة ولا بالحرب، وإنما مسألة أبي مسلم خاصة، تتعلق بفتاة أحبته ولم يحبها، فأساء إليها، ثم ندم فأحب أن يقربها فلم يعثر لها على أثر، ولا يزال يبحث عنها. فهل تعرف مكانها؟»
فلما سمع كلامه تذكر ما قالته جلنار عن موعد إبراهيم الخازن، فعلم أنه إنما جاء للبحث عنها، وتذكر ما لاحظه من عودة آمالها وتحرك قلبها، وأيقن أن أبا مسلم ينوي قتله وأخذ جلنار منه، وإلا لما كان ثمة باعث على فراره منه، وقال في نفسه: «لقد آن وقت العمل.»
Halaman tidak diketahui