Abu Hanifa dan Nilai Kemanusiaan dalam Mazhabnya
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
Genre-genre
افتتاح
مقدمة ومنهج
عصر أبي حنيفة
حياة أبي حنيفة وترجمته
طريقة أبي حنيفة وفقهه
اتجاهات فقه أبي حنيفة
صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره
أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده
خاتمة البحث ونتائجه
افتتاح
Halaman tidak diketahui
مقدمة ومنهج
عصر أبي حنيفة
حياة أبي حنيفة وترجمته
طريقة أبي حنيفة وفقهه
اتجاهات فقه أبي حنيفة
صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره
أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده
خاتمة البحث ونتائجه
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
Halaman tidak diketahui
تأليف
محمد يوسف موسى
افتتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت.
1
وأخرت، استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.
2
Halaman tidak diketahui
وأصلي وأسلم على من كان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته، المرفوع ذكره مع ذكره في الأولى، والشافع المشفع في الأخرى؛ أفضل خلقه نفسا، وأجمعهم لكل خلق رضية في دين ودنيا، وخيرهم نسبا ودارا؛ محمد عبده ورسوله.
3
مقدمة ومنهج
ليس التاريخ، مهما كان موضوعه: رجلا أو دولة أو فنا أو علما، إلا صنعة شخص أو أشخاص في إطار من الزمن؛ فما من حدث من أحداث التاريخ إلا كان من ورائه شخص أو أشخاص، وما من دولة قامت أو سقطت إلا كان ذلك نتيجة عمل شخص أو أشخاص، وما من نظام زال ليحل مكانه نظام آخر إلا كان ذلك ثمرة أعمال رجال كانوا هم العامل الأول فيه، وهكذا إلى سائر الموضوعات والجوانب التي يتناولها التاريخ والمؤرخون.
ومن ثم، كانت الأهمية البالغة للتراجم والمترجمين؛ لأن هذه التراجم هي التي تفسر التاريخ تفسيرا صحيحا، وهي التي تعين على فهمه حقا، وهي أولا وأخيرا التي تبعث فيه الحياة، ما دام التاريخ ليس إلا وصفا صادقا لسير هذه الحياة بما تشمل من كائنات.
ومن ثم أيضا، كانت دقة المؤرخ أو المترجم، وكان عمله يقتضيه حذرا بالغا يقيه الوقوع في الخطأ، واعتماد كل ما يقع لديه من أقاصيص ومأثورات تتناول من يترجمه من هذه الناحية أو تلك.
كما تقتضيه بذل الجهد في فهم من يترجم له من كل نواحيه، بما في ذلك النواحي العقلية والنفسية والأخلاقية وما يتصل بها، والبصر بالعصر الذي نشأ فيه، والبيئة التي تقلب في أرجائها، والعوامل التي تأدت به إلى ما عرف به من أفكار وآراء تتمثل في المذهب الذي أثر عنه، والآثار التي كانت لهذا المذهب.
من أجل ذلك كله، رأينا أن نسير في هذا البحث طبقا لهذا النهج الذي نوجزه في هذه البحوث أو الفصول: (1)
دراسة العصر الذي عاش فيه. (2)
دراسته باعتباره إنسانا منذ نشأ حتى صار صاحب مذهب أصبح خالدا في الفقه. (3)
Halaman tidak diketahui
دراسة طريقته وفقهه. (4)
نزعاته أو اتجاهاته الفقهية، وبخاصة الإنسانية منها. (5)
صور من الخلاف بينه وبين الفقهاء الآخرين. (6)
وأخيرا، أثره ومآل مذهبه.
وفي كل هذه المباحث لن نألو - بفضل الله تعالى ومشيئته - جهدا في استقراء المراجع الأصلية، وتحري الأمارات والقرائن والدلائل، للوصول منها جميعا إلى الحقائق التي لا شك فيها، وسنحاول أن نكون منصفين طالبين الحق وحده، والله يهدي إلى سواء السبيل.
عصر أبي حنيفة
تمهيد
عاش أبو حنيفة الشطر الأكبر من حياته العلمية في ظل الدولة الأموية، كما عاش الشطر الآخر تحت كنف الدولة العباسية، وبذلك شهد ما كان من أحداث في كل من هذين العصرين من عصر الدولة الإسلامية، وصاحب أرباب النحل والآراء والمقالات فيهما، سواء في ذلك الناحية الدينية والناحية السياسية، وأحس ما كان من تفاعل الثقافة الإسلامية والثقافات الأجنبية التي تسربت إلى المحيط الإسلامي أو نقلت إليه، وكان لكل ذلك أثره فيه وفي غيره من رجال الفكر والرأي بلا ريب.
نعم! لقد رأى أبو حنيفة النور في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ونشأ في ولاية الحجاج الثقفي على العراق، هذا الوالي الذي يعرفه التاريخ بالقسوة والشدة في معاملته للثائرين على سلطان سادته الأمويين، ثم عاصر وهو شاب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.
وأخيرا، رأى ما صار إليه الأمويون من سوء حال يؤذن بزوال دولتهم، وساير بدء الدعوة للعباسيين التي اتخذت العراق - وطن أبي حنيفة - مهدا لها، والتي انتهت بانتقال الخلافة إليهم على أيدي نفر من بني جلدته الفرس، ثم كان أن عاصر أيضا خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، بعدما رأوا أن العباسيين أخذوا الأمر لأنفسهم، على حين كانت الدعوة باسم العلويين، ثم كانت خاتمة حياته في أيام المنصور عام 150ه بعد أن استقر الأمر تماما له ولذويه دون أبناء عمومتهم العلويين.
Halaman tidak diketahui
لا جرم إذن أن يتأثر أبو حنيفة تأثرا كبيرا بهذه الأحداث التي نشأ فيها، وعاش بينها، وأسهم في بعضها؛ وأن يعمل فيها فكره، وأن تكون عاملا هاما - بجانب العوامل الأخرى التي سنتكلم عنها فيما بعد - في طبع تفكيره بطابع خاص، وفي توجيهه الوجهة التي اتجه إليها، وجعلته إماما من أئمة الفقه الإسلامي.
وهذا العصر، الأموي والعباسي معا، الذي عاش فيه أبو حنيفة، كان مليئا بالحركات الفكرية وأرباب المقالات والمذاهب المختلفة - من سياسية ودينية وفلسفية وكلامية - من المسلمين الأصلاء، أو من غيرهم من أبناء الأمم المختلفة الذين دخلوا في الإسلام غير متناسين ما كان لهم من ديانات وتفكير، وكذلك من غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في المملكة الإسلامية.
كما كانت هناك مراكز زاهرة للعلوم الإسلامية التي بلغت الذروة أيام العباسيين، وهذه المراكز نجد أعلاها شأنا في العراق، وفي الحجاز، وفي الشام، وفي مصر.
وكان العراق موطن أبي حنيفة، ومجاله الأول، من أوفر هذه الأقطار حظا من تلك الحركات والمقالات والأفكار المختلفة؛ وذلك لما كان يزخر به من أولئك الأقوام والأجناس الأجنبية الذين دخلوا في الإسلام، أو عاشوا حينا من الدهر تحت ظل الإسلام ولوائه، وكانت لهم مذاهبهم في الدين والفكر وطرقهم الخاصة في التفكير.
وكذلك أيضا؛ لأن العراق - على ما هو معروف - كان حلقة الوصل الكبرى بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأجنبية، وذلك حين نقلت الفلسفة اليونانية وكثير من العلوم والآداب الأجنبية إلى العربية أيام العباسيين.
إلا أن الإسلام، وهو دين الأمة الغالبة الحاكمة، استطاع أن يجعل من كل هذه الثقافات العديدة المختلفة، ثقافة واحدة مشتركة، وهي ما سميت بعد وما نسميها اليوم الثقافة العربية الإسلامية؛ كما جعل من كل هذه العناصر التي يتكون منها جسم الدولة الإسلامية أمة واحدة، تسري فيها الروح العربية القوية الغالبة، ولها أدب واحد، وعلوم واحدة مشتركة ألفت بين الجميع؛ وبذلك صار الجميع يتكلمون لغة واحدة، هي اللغة العربية، ويتعاونون في إقامة صرح ثقافة واحدة، هي الثقافة الإسلامية بأوسع معانيها؛ أي بما تشتمل عليه من آداب وفلسفات وعلوم مختلفة.
وصف هذا العصر
ولكل عصر سماته وخصائصه التي تميزه من غيره من العصور، سواء في هذه الناحية السياسية والناحية الاجتماعية والناحية العقلية، وفي كل ناحية من هذه النواحي تعمل مؤثرات وعوامل مختلفة، ولكل من هذه المؤثرات والعوامل آثارها ونتائجها في النواحي التي ذكرناها.
ونحن هنا لا نحاول تأريخ ذلك العصر من جميع نواحيه؛ ولكن همنا هو وصفه من الناحية العقلية وحدها؛ ولهذا لن نتناول النواحي الأخرى إلا بقدر ما يكون لها من أثر في الناحية العقلية التي هي موضع العناية في هذا البحث؛ ولذلك لن نلم بالناحية السياسية والناحية الاجتماعية إلا بمقدار ما يعيننا على ما نحن بسبيله؛ نعني تجلية الناحية العقلية من جانبها الخاص بالفقه الذي نبغ فيه الإمام أبو حنيفة.
البيئة العامة
Halaman tidak diketahui
إذا كان للبيئة بمختلف نواحيها أثر كبير في الإنسان الذي يتناوله المؤرخ بالبحث، فإن هذا لا يصدق على رجل السياسة أو الأدب ونحوهما فحسب، بل يصدق أيضا على الفقيه؛ فإن الفقيه، وهو يعنى بالفقه والتشريع معا، يجب أن يكون عارفا بالبيئة التي يعيش فيها معرفة طيبة، متصلا بها اتصالا قويا، ما دام من أهم ما يعنيه أن يعمل على إيجاد حلول لمشاكلها وحوادثها بالتشريع.
ولذلك يكون من الواجب على من يؤرخ فقيها من الفقهاء، ويتصدى لبيان مذهبه الذي ذهب إليه في الفقه، أن يتناول هذه البيئة بالبحث بالقدر الذي لا ينبغي الاستغناء عنه في بحثه.
عاش أبو حنيفة - كما عرفنا - في عهد الأمويين وفي عهد العباسيين، وكانت الدولة الإسلامية في أيام هاتين الأسرتين تحكم الشرق كله من ضفاف المحيط الأطلنطي غربا إلى الصين شرقا والهند جنوبا، كما وصل سلطانها - أيام الأمويين بالأندلس - إلى جزء غير قليل من بلاد أوروبا.
وتبع هذا أن كانت رقعة البلاد الإسلامية المترامية الأطراف تضم خليطا من الشعوب المختلفة الأصول والتقاليد والعادات: فهناك العرب الفاتحون الأصلاء، وهناك الموالي من أبناء البلاد المفتوحة الذين أظلهم الإسلام، وعاشوا تحت لوائه وكنفه.
وهؤلاء الموالي كانوا فيما بينهم أخلاطا من عناصر شتى؛ ففيهم الفارسي، وفيهم الرومي، وفيهم التركي، وفيهم الهندي، وفيهم المصري ... وهكذا إلى سائر الأجناس التي دخلت في الإسلام، وصارت تحت حكمه.
ومن ثم نستطيع أن نقرر أن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد لم يكن متجانسا، وإن جمع الإسلام بين أفراده وطبقاته وألف بينهم؛ فإنه ليس من الميسور، ولا مما يتفق وطبائع الأشياء أن ينسلخ الإنسان تماما من خصائص أصله ومواريثه العقلية والاجتماعية؛ لأنه دخل في دين جديد، وأصبح تابعا لحكومة جديدة تقوم على أسس من هذا الدين ومثله التي يدعو إليها.
وهؤلاء الموالي كانوا باعتبار مركزهم الشرعي، وهو أنهم أرقاء، مادة للفقه والفقهاء، ومن نراهم يتناولون بحث أحوالهم وأحكامهم المختلفة في أبواب معروفة من كتب الفقه الإسلامي.
فهناك باب العتق وأحكامه، والمكاتبة وأحكامها، والتدبير وأحكامه، ثم هناك بحوث تتعلق بالشهادة، وهل تجوز من العبد أو لا تجوز؟ باعتبارها من باب الولاية، والعبد لا يلي أمور نفسه، فبالأولى لا تكون له ولاية على غيره؛ إلى جانب بحوث أخرى تتعلق بالزواج والطلاق والعدة، وبالجنايات تكون من العبد أو عليه، وبالبيوع إذا كان موضوع العقد عبدا خالصا لصاحبه أو مشتركا بينه وبين غيره، وهكذا إلى سائر البحوث التي اشتدت عناية الفقهاء بها بسبب كثرة الرق والأرقاء في هذا العصر.
ومما يتصل بسبب قوي بهذه الناحية الاجتماعية من تلك البيئة العامة، ما كان من العناية بأحكام الغناء وما هو من هذا السبيل، وذلك بسبب كثرة المغنيين والمغنيات من العبيد والجواري الذين كثر اتخاذهم في هذا العصر، والذين فشا إعدادهم لهذه الحرفة وما يتصل بها.
ومن الناحية السياسية، نرى أبا حنيفة يعاصر الدولة الإسلامية، وهي دولة واحدة، عاصمتها دمشق تحت حكم أسرة الأمويين، ثم يشاهد هذه الدولة، وقد صارت دولتين: دولة العباسيين في الشرق وعاصمتها بغداد، ودولة الأمويين في الأندلس وعاصمتها قرطبة.
Halaman tidak diketahui
وهذه الدولة الإسلامية، في الشرق والغرب، قد اتسعت رقعتها وآفاقها، وتعددت وتباعدت البلاد والأقاليم التي تحكمها، وكان لها - بلا ريب - قواعد تقوم عليها في النواحي الإدارية والمالية؛ ولكن هذه القواعد لم تكن من الإحكام والإحاطة والشمول بدرجة تكفي لإقامة حكم على أساس ثابت دائم.
فكان لا بد إذا من النظر الجاد الشامل لهذه الناحية، ومن ثم نجد الحاجة تظهر شديدة لوضع تلك القواعد على أسس وطيدة قوية شاملة.
وكان من مظاهر هذه الحاجة، ما نعرفه من طلب الخليفة هارون الرشيد من الإمام أبي يوسف وضع كتاب يعتبر دستورا للدولة في الناحية المالية. كما كان من مظاهرها أيضا ما ظهر من بحوث منثورة، صارت فيما بعد موضوع كتب خاصة مستقلة، في النواحي الإدارية، ومن هذه النواحي بيان السلطات العامة وتوزيعها وعلاقات بعضها مع بعض.
1
ثم هذه الدولة، وقد بلغت من الامتداد ما عرفنا، كان لا بد لها أن تدخل في علاقات خارجية مع الممالك الأجنبية الغربية، وهذه العلاقات لا بد لها من تقاليد تقوم عليها، وقواعد تحكمها، سواء في ذلك حالة السلم وحالة الحرب.
وهذه القواعد كان الكثير منها موضع عناية القرآن الكريم وسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن في العصر الذي نتكلم عنه، ظهرت الحاجة ماسة لتفصيل هذه القواعد، وإضافة قواعد وأصول أخرى يتطلبها الحال.
فكان لا بد إذا من عمل الفقهاء بقوة في هذه الناحية، على ما نجده في أبواب الجهاد والسير من كتب الفقه، وكان من ذلك أن أظهر فيما بعد كتاب «السير الكبير» لإمام محمد بن الحسن الشيباني، مؤسس القانون الدولي العام بحق في العالم كله، وبلغ من إعجاب الخليفة هارون الرشيد بهذا العمل المجيد أن أرسل أولاده إلى مجلس الشيباني ليسمعوا منه هذا الكتاب الخالد.
البيئة العقلية
قد لا يجد الباحث فروقا ذات بال من الناحية العقلية والعلمية ترجع فحسب إلى انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين؛ اللهم إلا ما يستطاع رده إلى عامل الزمن واطراده، واستبحار العمران، والأخذ بأسباب الحضارة بنصيب أكثر، أيام العباسيين منه أيام الأمويين.
Halaman tidak diketahui
فإن من شأن هذا، أن يتيح للناس حياة أكثر استقرارا ودعة، ويوفر لهم من الزمن ما ينفقونه في الإقبال على العلوم وتدوينها والكتابة فيها، وهذه نقلة طبيعية كان لا بد منها.
أما أصل الميل إلى المعرفة والبحث، وتشجيع العلماء والباحثين، فهو أمر يسير مع الزمن، وهو يشتد متى استقر أمر الدولة، وفرغت من توطيد نفوذها وسلطانها.
ولعل من آيات هذا الذي نقول، أن الباحث في التاريخ الفكري للمسلمين في عهد هاتين الدولتين يجد الفرق والمذاهب والمقالات الدينية - من شيعة وخوارج ومعتزلة - هي هي، وأن تدوين العلوم بدأ يأخذ صورته العامة الشاملة في عهد الدولة الأموية نفسها، وأنه لما استقر الحكم للأمويين في الأندلس ازدهر البحث والعلم إلى درجة تكاد تكون منقطعة النظير.
ومهما يكن فقد نشأ أبو حنيفة في بيئة عقلية تموج بالعلم والعلماء، وتزخر بأصحاب المذاهب والمقالات الدينية المختلفة في الأسس والأهداف والغايات، وكان من الطبيعي أن يتأثر بهذا الجو، وأن تكون له مشاركة فيما يضطرب فيه من آراء وأفكار. وسنعرف بعض هذا عندما نتكلم عن ترجمته وحياته بصفة عامة.
على أن هذا لا يمنعنا الآن من الإشارة إلى ما كان يسود هذا العصر من نزعتين أو منهجين في الفقه والتشريع؛ وهما منهجان نرى لهما آثارا واضحة في غير الفقه؛ أي في التفسير والحديث واللغة والأدب مثلا.
هذان المنهجان هما: المنهج النقلي، والمنهج العقلي. ونستطيع أن نعبر عنهما، فيما يتصل بالفقه خاصة، بمنهج أهل الحديث ومنهج أهل الرأي.
وهما منهجان أو نزعتان قديمتان ظهرتا أيام الصحابة أنفسهم؛ بل إن لنا أن نقرر أنهما ظهرتا في السنوات الأولى من وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم .
2
لقد التقى هذان المنهجان في الفقه إذا، وكان كل منهما يعرف من الآخر وينكر، ويوافق ويخالف، ويؤثر ويتأثر، وكان لكل منهما أسباب تشد من أزره وتقويه، وكان من أسباب المنهج العقلي ما كان من تسرب التفكير اليوناني إلى البلاد الإسلامية في بطء وعلى استحياء زمن الأمويين، وفي انسياب وجرأة أيام العباسيين، بسبب ما كان من كثرة النقل والترجمة لفلسفات وتفكير القدامى، وبخاصة اليونان.
Halaman tidak diketahui
وفي هذا العصر إذا سرى في التفكير الإسلامي لقاح علمي جديد، وتفاعل المنهج النقلي والمنهج العقلي، وقوي شأن العقل ونظره ونفوذه، وكثر بحث الفقهاء عن العلل التي تقوم عليها الأحكام الشرعية؛ ومن ثم يكون من الممكن قياس المجهول على المعلوم، ويكثر فرض الفروض وترديدها، ولا يطمئن الفقيه إلا إلى ما يرضي عقله، ويقوم عليه الدليل من الأحكام، إن لم يجد نصا من القرآن المحكم، أو السنة الصحيحة.
والعراق وهو مهد أبي حنيفة ومجال حياته وتفكيره، كان أهم المراكز العلمية التي توزعتها الأمصار الإسلامية، ولا عجب! فهو وارث الحضارات القديمة التي توالت عليه، وإليه عندما فتحه العرب هرع كثير من المسلمين، واتخذوه لهم وطنا ومقاما، وبفضل غناه وثروته كان العيش فيه ميسورا والحياة رغدة، وكان لأهله من الوقت ما يسمح لهم بالإقبال على البحث والتفرغ للعلم.
ولما انتهت الدولة إلى العباسيين، واتخذوا بغداد عاصمة لهم، ونقلوا فلسفة القدامى وعلومهم وبخاصة اليونان، كان العراق طبعا هو المنبع الذي انسابت منه هذه الفلسفة والعلوم إلى العالم الإسلامي، وكان هو الإقليم الذي أخذ علماؤه منها بأوفر نصيب، وكان لذلك أثر في التفكير الإسلامي ومنه التفكير الفقهي والتشريعي.
وبجانب هذه الخاصة للعراق ، وعاصمته بغداد مقر سلطان العباسيين، نجد خاصة أخرى فيما يتعلق بالفقه والتشريع، ونعني بها أن العراق كان مهد أهل الرأي، أو أصحاب المنهج العقلي؛ وذلك لعوامل يسهل فهمها مما تقدم، فضلا عن بعد هذا الإقليم عن الحجاز، المركز الأول للسنة والحديث، وعن تعقد الحياة في ذلك الإقليم وكثرة النوازل والمسائل المتنوعة التي تحتاج إلى تشريع.
ويكفي أن نذكر أن من شيوخ «أهل الرأي» هؤلاء، ثلاثة، وكلهم من العراق: (1)
علقمة بن قيس النخعي الكوفي الفقيه، وقد توفي عام 62ه. (2)
إبراهيم بن يزيد النخعي «فقيه العراق بالاتفاق» كما يذكر العماد الحنبلي.
3
وقد كان يذهب إلى أن أحكام الشريعة لها معان معقولة، كما قامت على علل تفهم من الكتاب والسنة، وأن على الفقيه إدراك هذه العلل، ليجعل الأحكام تدور معها، وقد توفي عام 95، أو عام 96ه. (3)
حماد بن أبي سليمان الأشعري المتوفى عام 120، وعنه أخذ أبو حنيفة الفقه والحديث، وكان فقيه الكوفة مع حبيب بن أبي ثابت، كما يذكر ابن العماد.
Halaman tidak diketahui
4
الفقهاء وأصحاب السلطان
لم يكن الفقهاء في ذلك الزمن يعيشون على هامش الحياة، كما هو الغالب في فقهاء اليوم؛ بل كانوا - إلا قليلا - يخالطون أصحاب السلطان، كما كانوا يسهمون إلى حد كبير في توجيه هؤلاء إلى طريق الخير، ويشاركون في إقامة الدولة على أسس ودعائم من الدين وشريعة الله ورسوله؛ وبخاصة في العصر الذهبي للدولة العباسية الذي عاش فيه الأئمة الأربعة الكبار.
وكان ذلك كله لا بد منه، وكان مما تقتضيه الحياة وطبيعة الأمور في ذلك الزمن، فقد كانت الدولة دولة دينية، وكان لا بد لخلفائها وولاتها وأمرائها من الحفاظ على هذا الدين، والإفادة من حملة علومه وكسبهم بجانبهم؛ وكان لا بد لهؤلاء من الجهر بالحق، وتقويم العوج، وإرشاد من ينحرف أو يبتعد عن شريعة الله.
وكان الفقهاء يعرفون من الخلفاء والولاة وينكرون، وكان من هؤلاء من يقبل النصح ومن يصد عنه، ومن ثم كان من الفقهاء من أوذي في سبيل الجهر بما يراه حقا، ومن الميسور أن نأتي بمثل لهذا أو ذاك في عهد الدولة الأموية وفي عهد الدولة العباسية: (1)
هذا مروان بن الحكم، أحد الولاة من الأسرة الأموية ووالد الخليفة عبد الملك، يريد أن يقطع يد عبد سرق فصلة من النخل من حائط رجل، وغرسها في حائط سيده؛ ولكنه رجع عن رأيه وأمر بتخلية العبد حين سمع من رافع بن خديج أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر.» والكثر الجمار. وكان مروان نفسه فقيها.
5 (2)
ويروي الإمام مالك.
Halaman tidak diketahui
6
أنه بلغه أن صكوكا خرجت للناس من طعام الجار في زمن مروان بن الحكم، فتبايع الناس هذه الصكوك قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وقالا لمروان: أتحل بيع الربا يا مروان! فقال: أعوذ بالله! وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس قبل أن يستوفوها. فبعث مروان الحرس ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها. (3)
اشترى مخلد بن خفاف غلاما، فاستغله ثم ظهر منه على عيب، فرفع أمره إلى عمر عبد العزيز، فقضى برد الغلام للبائع، ورد ما أفاده المشتري منه. ولكن عروة بن الزبير يذهب إلى عمر يخبره أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قضى بمثل ما قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، وحينئذ أبطل عمر حكمه، وقضى بمثل ما قضى به الرسول،
7
ومن المعروف أن عمر بن عبد العزيز كان فقيها أيضا. (4)
ذكر الإمام النسائي في سننه في البيوع أن مروان بن الحكم (الذي تقدم ذكره آنفا) كتب لأسيد بن حضير الأنصاري، وكان عاملا على اليمامة، بأن معاوية كتب إليه أن من سرق منه متاع فهو أحق به حيث وجده. فكان جواب أسيد لمروان: أن النبي قضى بأن من ابتاع متاعا مسروقا وكان غير متهم كان لصاحبه أن يأخذه من المشتري بثمنه أو يرجع على السارق. وعرف مروان أن هذا الحكم هو الواجب اتباعه، لصدوره عن الرسول، ولعمل أبي بكر وعمر وعثمان به، فبعث بكتاب أسيد إلى معاوية، فكتب إليه: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي؛ ولكني أقضي عليكما. فأنكر ذلك أسيد حين علمه، وقال: لا أقضي ما وليت بما قال معاوية. (5)
وحين استلحق معاوية «زياد ابن أبيه» مقرا بأخوته له، مستجيبا في هذا لعوامل سياسية على حين أن الشريعة لا تبيحه، لم يستطع الفقهاء أن يتقبلوا هذا الصنيع منه، فكان أحدهم، وهو سعيد بن المسيب، يقول: قاتل الله فلانا - يريد معاوية - كان أول من غير قضاء الرسول، وقد قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر.» والحديث
Halaman tidak diketahui
8
معروف.
هذه المثل، ولو شئنا لأتينا بالكثير منها، ترينا كيف كان الفقهاء حفاظا على شريعة الله ورسوله، وكيف كانوا لهذا ينكرون كثيرا على الخلفاء والأمراء والولاة ما لا يرونه حقا، وكيف لم يكونوا يحيون على هامش الحياة والمجتمع الإسلامي كما قلنا.
وهناك عامل آخر سياسي كان من شأنه أن يثير تدخل الفقهاء في الشئون العامة للدولة، وكان سبب أذى غير قليل منهم؛ لأنعم وقفوا دون ما يريده لها الخليفة، أو لأن منهم من خرج مع من خرج عليهم، وسواء في ذلك الأمر أيام الأمويين أو أيام العباسيين، فهم جميعا يشتركون في جعلهم الخلافة ملكا عضوضا لهم ولأسرتهم، ونكتفي هنا بهذه المثل القليلة التي تغنينا عن الكثير: (1)
يأبى سعيد بن المسيب، وهو - كما يقول ابن خلكان وغيره من المؤرخين - «من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع.» أن يبايع الوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان بولاية العهد، فيأمر الخليفة بعرضه على السيف، وجلده خمسين جلدة، والتشهير به في أسواق المدينة، ومنع الناس أن يجالسوه.
ومع هذا فقد طلب منه الخليفة عبد الملك أن يزوج ابنته لابنه وولي عهده الوليد، فرفض، وآثر عليه أحد مريديه الفقراء، ونعتقد أن الغرض من هذا الزواج - لو رضي به ابن المسيب - أن يظهر للناس أن هذا الفقيه راض عن الخليفة وحكمه؛ ولكن، كيف يمكن أن يرضى، وهو يعد بني مروان ظلمة، وكان يقول: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكيلا تحبط أعمالكم.
9 (2)
وهناك بعد ابن المسيب، سعيد بن جبير المقرئ والفقيه وأحد الأعلام، رأى أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على حق في خروجه على عبد الملك بن مروان فأعانه، فما كان من الحجاج الثقفي عامل عبد الملك إلا أن قتله لما ظفر به، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، كما يذكر ابن العماد الحنبلي.
10 (3)
وسفيان الثوري راعه كثرة ما اقترفه أبو جعفر المنصور من ظلم، وكثرة ما أراقه من دماء في سبيل دولة أسرته العباسية، فجاهر بالنيل منه بكلامه، فهم به الخليفة وأراد قتله، فما أمهله الله.
Halaman tidak diketahui
وحدث أن دخل على الخليفة المهدي، بعد أن ولي الخلافة بعد أبي جعفر المنصور، فسلم عليه تسليم العامة (يظهر أنه لم يلقبه بخليفة المسلمين)، فأقبل عليه بوجه طلق، وقال: تفر ها هنا وها هنا، أتظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فما عسى أن نحكم الآن فيك؟ فقال سفيان: إن تحكم الآن في، يحكم فيك ملك قادر عادل يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع مولى الخليفة: ألهذا الجاهل أن يستقبلك بهذا؟ ايذن لي بضرب عنقه، فقال المهدي: ويلك! اسكت، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة؛ ولكن «سفيان» رفض هذا العمل لهذه الدولة، ورمى بالكتاب في دجلة وهرب. فطلب فلم يقدر عليه، وظل متواريا حتى مات بالبصرة عام 161ه.
11 (4)
وأبو حنيفة نفسه ناله أذى شديد في أيام الأمويين، ثم في أيام العباسيين، وربما كان السبب الحقيقي لذلك، أن ميله كان لأحد العلويين الذي خرج على العباسيين، وهو إبراهيم بن عبد الله، فإنهم ليذكرون أنه أعانه في خروجه.
ومن هذه الأمثلة الأخرى، نلمس أن الفقهاء، وبجانبهم المحدثون القوام على سنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، كانوا في هذا العصر - الذي ينفرد فيه بالحكم أسرة معينة؛ بل فرد من أسرة - يشعرون بواجبهم في إقامة الحق، ويعملون على أن يقوموا بهذا الواجب مهما نالهم في هذا السبيل من أذى الخلفاء وعنت الأمراء والولاة أحيانا غير قليلة.
فمنهم من يخرج مع الخارجين عليهم، ومنهم من يعظهم فلا يبالي أيسخطون عليه أم يرضون عنه، ومنهم من يرفض أن يشاركهم في بعض أعمالهم مخافة أن يصيبه جانب من غضب الله لمخالطة الظلمة وعونه لهم.
وهكذا نرى القراء والمحدثين والفقهاء يحاولون أن يجعلوا لأنفسهم سلطة مقابل سلطة الخلفاء ومن إليهم، حينما رأوا منهم استبدادا لا يتفق والمنهج الإسلامي الرشيد في الحكم وولاية أمور المسلمين، وصار يجري على ألسنة الناس أحاديث تروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تؤكد هذه الروح وتقويها؛ وذلك مثل: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والفقهاء.» «العلماء أمناء الرسول على عباد الله، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسول فاحذروهم واعتزلوهم.» ومن ثم أيضا، قيل: العلماء ورثة الأنبياء.
الموالي والفقه
Halaman tidak diketahui
تكلمنا، ونحن بصدد الحديث عن البيئة الاجتماعية في هذا العصر، عن أثر «الرق» ووجود الأرقاء في الفقه؛ إذا استتبع وجودهم أحكامهم في مختلف النواحي. والآن نشير إلى أثر هؤلاء الموالي في الفقه من ناحية أخرى، وهي ناحية جدهم في تحصيل العلم بعامة وبروزهم فيه، وذلك إلى درجة تجعلنا نحس أننا مدينون لهم في تأسيس كثير من العلوم الإسلامية وازدهارها.
وهذه ظاهرة نجد من الباحثين من اكتفى بتسجيلها، كما نجد من عني أيضا بتفسيرها، ومن هؤلاء ابن خلدون إذ يقول:
12
وهو يتكلم عن حملة العلم في الإسلام وأكثرهم العجم ما نذكره بتصرف يسير.
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم إلا القليل النادر، وإن كان منهم العربي نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته؛ مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي.
والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة ، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين ...
ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات والتنظير والقياس، واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها ... فاندرجت في جملة الصنائع، وقد قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها العرب وعن سوقها.
والحضر في ذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي، وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف؛ لأنهم أقوم على ذلك؛ للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس ...
وذكر بعد ذلك أن حملة الحديث كان أكثرهم عجما أو متعجمين باللغة والمربى، وكذلك علماء أصول الفقه وعلم الكلام وأكثر المفسرين. ثم قال: وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة فقد شغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك، عن القيام بالعلم والنظر فيه ... فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم.
ومن الواضح أن مؤسس علم الاجتماع يتكلم هنا عن العصر العباسي الذي قام على أكتاف الموالي، فوصلوا فيه إلى الدرجات العلى في السياسة والوزارة وفي إدارة شئون الدولة؛ ولكنه يصدق بلا ريب على أواخر العصر الأموي؛ أي على التابعين ومن جاء بعدهم؛ وذلك أن أبا إسحاق الشيرازي المتوفى عام 476ه ينقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال:
Halaman tidak diketahui
13 «لما مات العبادلة - عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم - صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي؛ فقيه أهل مكة عطاء (ابن أبي رباح)، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن (البصري)، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي،
14
وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. إلا المدينة، فإن الله عز وجل من عليها بقرشي فقيه من غير مدافع، سعيد بن المسيب رضي الله عنه .»
15
وبعد ذلك جاء في العقد الفريد أن ابن أبي ليلى قال، قال لي عيسى بن موسى (توفي سنة 168 عن شذرات الذهب ج1: 266، وكان من الأمراء العباسيين المعروفين) وكان ديانا شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موال. قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: يزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع ابن أبي نجيح. قال: فما هؤلاء؟ قلت: موال. فتغير لونه ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد. قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي، فاربد وجهه، ثم قال: فمن فقيه اليمن؟ قلت طاوس، وابنه، وابن منبه. قال: فمن هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا، وقال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربدا واسودادا حتى خفته. ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى، فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ فوالله لولا خوفي لقلت: الحكم بن عتبة وحماد بن أبي سليمان؛ ولكني رأيت فيه الشر فقلت: إبراهيم «النخعي» والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان، فقال: الله أكبر. وسكن جأشه.
16
وهكذا كان الأمر، سواء أكان ذلك للسبب الذي ذكره ابن خلدون، أو لسبب آخر يجب أن يضاف إلى ذلك السبب في رأينا؛ وهو أن العرب في ذلك الزمن لم يكن ينقصهم شيء من أسباب الجاه والمجد؛ فهم السادة، ومنهم الخلفاء والأمراء والولاة؛ أما الموالي فكان ينقصهم من هذه الأسباب كل شيء، وهم مع ذلك أبناء أمم لهم في الحضارة والسيادة عرق قديم أصيل؛ فكان طبيعيا أن يعملوا على تعويض ما يشعرون به من نقص، ووصلوا إلى ذلك عن طريق العلم الذي كانت أسبابه ميسرة لهم.
فقد كان الصحابي يخلط مواليه بنفسه، فكان هؤلاء يعينون سادتهم، ويأخذون عن المحدثين والمفسرين والفقهاء منهم علومهم. ومن هنا - مع حسن استعدادهم - كان نبوغهم؛ ومن أمثلة ذلك نافع مولى عبد الله بن عمر، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس.
استحقاق درجة الفقه
وهؤلاء الذين عرفوا بالفقه من الموالي أو العرب، والذين أقر لهم هذا المصر أو ذاك بالإمامة فيه، كيف كانوا يصلون إلى هذه المنزلة لدى الناس، فيقرون لهم بالإمامة في الفقه؟
Halaman tidak diketahui
لم يكن في ذلك العصر معاهد علمية تمنح من الدرجات العلمية ما تمنح معاهد اليوم، وإنما كانت هناك المساجد وحلقات الدروس فيها، وكل حلقة يتصدرها أحد الشيوخ ويختلف من يحضرونها قلة وكثرة بحسب منزلة صاحب الحلقة.
إلا أن ما للعلم من جلالة، وما لمجلس التعليم من هيبة، يقتضينا القول بأن الأمر لم يكن متروكا بلا ضابط أو تقاليد؛ بل لعل نظام «الإجازة» يعطيها الشيخ لمن يراه أهلا لها، هذا النظام الذي كان معروفا في الأزهر - وأمثاله من المعاهد العلمية - قبل أن يعرف نظام الامتحانات والدرجات العلمية التي تمنح حسب نتائج هذا الامتحان، قد عرف في ذلك العصر بصورة عملية.
وهذا أبو حنيفة نفسه نراه يلازم حماد بن أبي سليمان طويلا، ثم يتشوق للرياسة في حياة شيخه؛ ولكنه وجد نفسه بعد الاختبار ليس بهذه المنزلة، فعزم ألا يفارق شيخه حتى يموت، وكان ذلك فعلا.
17
ويذكر حماد بن سلمة أن حماد بن أبي سليمان كان مفتي الكوفة والمنظور إليه في الفقه بعد موت إبراهيم النخعي، وكان الناس به أغنياء، فلما مات خاف أصحابه أن يموت ذكره، ويندرس العلم، وكان له ابن حسن المعرفة، فأجمعوا عليه وصاروا يختلفون إليه، إلا أنه لم يصبر على القعود لهم؛ لأن الغالب عليه كان النحو وكلام العرب.
فسألوا أخيرا أبا حنيفة فجلس لهم وصاروا يختلفون إليه، ثم صار يختلف إليه من بعدهم آخرون، منهم أبو يوسف وزفر بن الهذيل، فلم يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه الأمراء وذكره الخلفاء.
18
ومن بعد أبي حنيفة نجد مالك بن أنس يقول: بعث إلي الأمير في الحداثة أن أحضر المجلس، فتأخرت حتى راح ربيعة (هو ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن فروخ المديني، وكان من شيوخ مالك) فأعلمته وقلت: لم أحضر حتى أستشيرك، فقال لي ربيعة: نعم، فقيل له: لو لم يقل لك احضر لم تحضر؟ قال: لم أحضر، ثم قال: لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس لها أهلا.
19
وبعد ذلك ينقل صاحب الديباج المذهب أن «مالكا» قال: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للأحاديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلا لذلك جلس. وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني أهل لذلك.
Halaman tidak diketahui
من هذين المثالين، نفهم أن درجة الفقه والفتيا فيه كان لا يصل إليها المتفقه إلا إذا آنس من نفسه أنه أهل لها، ثم يحدث بعد هذا أن يشهد له طائفة من مشيخة العلم أنه جدير بالجلوس للتعليم وإقرار الناس وإفتائهم، وحينئذ يجوز له أن يقوم من الناس مقام الشيخ والمفتي.
ولعل مما يشهد لذلك أن صاحب الديباج المذهب أيضا يذكر أن رجلا سأل «مالكا» عن مسألة، فبادره ابن القاسم فأفتاه، فأقبل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت علي أن تفتي يا عبد الرحمن! يكررها عليه، ثم قال، ما أفتيت حتى سألت: هل أنا للفتيا موضع؟ فلما سكن غضبه قيل له: من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي.
20
العباسيون والفقه
مهما كان، من الحق - كما قلنا من قبل - أنه لا فوارق ولا حدود فاصلة من الناحية العقلية في هذا العصر؛ أي بين الفترة التي عاشها أبو حنيفة في ظل الحكم الأموي، والأخرى التي عاشها في ظل الحكم العباسي، وأن العلوم الإسلامية كانت ستأخذ طريقها إلى النمو والتطور والازدهار تحت حكم الدولة الأموية لو طال بها الزمن ولم تقم الدولة العباسية - مهما كان ذلك - حقا، فإنه مما لا ريب فيه أن حالة الفقه والفقهاء في هذا الفترة من العصر العباسي تختلف عنها أيام الأمويين .
وقد عالجنا من قبل في كتابنا : «عصر نشأة المذاهب» أمر الفقه والفقهاء تحت الحكم الأموي، ثم تحت الحكم العباسي، وبينا هناك الأسباب التي أوقعت النفرة بين الفقهاء وبين الحكم الأموي، ثم ما كان من رعاية العباسيين للفقه والفقهاء، وأسباب ذلك ونتائجه؛ ولهذا وذاك لا نرى أن نكرر ما سبق أن قلناه، ونكتفي هنا أن نحيل عليه.
21
ومع ذلك نرى من الخير أن نشير إلى أن نمو الفقه وتطور التشريع في العصر العباسي الأول كانت له عوامله وأسبابه، كما كانت له نتائجه التي علينا تسجيلها.
ومن هذه العوامل ما يرجع إلى طبيعة الإقليم الذي اتخذته الدولة العباسية قاعدة لملكها، ومنها ما يرجع إلى الأسس التي قام عليها حكمها، ومنها ما يرجع إلى طبيعة الزمن نفسه وتطوره.
اتخذ العباسيون العراق مقرا لملكهم، والعراق إقليم يختلف عن الحجاز وعن الشام اللذين كانا مقرا للخلافة الراشدة وللدولة الأموية؛ فهو إقليم زراعي يرويه دجلة والفرات، ولأهله نظم في زراعاتهم درجوا عليها من قديم الزمان؛ فكان لا بد من قواعد شرعية قانونية تنظم ري الأرض، وتبين ما يجوز من المعاملات الشرعية فيما يتصل بالزراعة، وتحدد الخراج الذي من حق الدولة أن تأخذه على الناتج من الأرض، وهكذا.
Halaman tidak diketahui
وأهل هذا القطر الكبير كانوا مع ذلك أخلاطا من أمم مختلفة، كالفرس والروم وغيرهم، ولكل من هذه الأجناس عادات وتقاليد في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما، وفيه تركزت الحضارة الإسلامية بعد أن اشتدت وقويت أسبابها، وفيه المال والترف والتمتع بلذائذ الحياة وألوانها، بما في ذلك الشراب والغناء والسماع.
وكل هذا ألقي على الخلفاء واجبا ثقيلا، وهو النظر في هذه العادات والتقاليد، وفيما يكون عن الحضارة والترف من أحداث ومشاكل، وبيان حكم الشريعة فيها، وذلك ما يتطلب كثرة الاجتهاد في الأحكام والفتاوي؛ لعدم كفاية ما لديهم من أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
وسنته لذلك كله،
22
ومن ثم، رأينا اللجوء إلى القياس والرأي يشتد في هذه الفترة، والبحث فيه وفي مقوماته يزيد.
والعباسيون أسرة تنتسب إلى البيت النبوي الكريم ، ويعتزون بأن صاحب الشريعة الإسلامية كان منهم، فلا عجب إذا أن تقوم سياستهم في الحكم على أسس من الدين وشريعته، وأن يظهر خلفاؤهم بأنهم رجال حكم وسياسة ودين معا، ومن ثم، رأيناهم يزيدون عن الأمويين في الاتصال بالفقهاء ورجال الدين وحملة علومه، ويقربونهم ويصلونهم بالصلات السنية، على نحو ما نعرف عن أبي جعفر المنصور - على بخله المأثور - والرشيد.
وهنا نسجل أمرين جديرين بالتسجيل: الأول أن تقريب الخلفاء العباسيين للفقهاء نتيجة لطبيعة أسرتهم وحكمهم وعملا بسياستهم، تجعلهم حذرين من الميول السياسية للفقهاء الكبار، وذلك مخافة أن يكون لبعضها لدى الأمة ما لا يرضون من الأثر.
فهذا ابن جرير الطبري يذكر أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله الحسن، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر. فقال: «إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين.» فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته.
23
Halaman tidak diketahui
وقد كان هذا الموقف العظيم سببا في أذى شديد له، مع إجلال الخليفة أبي جعفر المنصور له، وعرضه عليه حمل فقهاء الأمصار على كتابه «الموطأ» على ما هو معروف. فقد روى ابن خلكان أنه «سعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، وهو عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء. فغضب أبو جعفر ودعا به، وجرده، وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.» ثم ذكر بعد ذلك أن ابن الجوزي، وهو يذكر أحداث سنة 147ه، قال: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان.
وقد يعين على فهم هذا التصرف الشنيع؛ وهو إيذاء فقيه كبير هو موضع الإكرام والإجلال، كلمة موجزة محكمة لأبي جعفر المنصور نفسه، وهي: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وأي قدح في رأيهم أكبر من إفتاء إمام من أئمة الفقه بتجويز الخروج عليهم وتشجيعه!
والأمر الثاني، هو أن الصلات الطيبة الوثيقة بين كثير من الفقهاء وبين الخلفاء العباسيين ومن إليهم من الأمراء والوزراء، والرغبة في التوفيق بين القواعد الفقهية النظرية وبين الحياة العملية التي كانوا يحيونها حينذاك؛ هذا وذاك، كانا من الأسباب القوية التي جعلت فنا فقهيا يظهر ويزدهر؛ وهو «فن الحيل» لدى فقهاء مدرسة الكوفة بعامة، ثم مدرسة أبي حنيفة بخاصة.
ونسمي هذا فنا، ولا نسميه علما؛ لأنه يقوم على الصنعة والتعمل، وعلى تخريج للقواعد الفقهية المسلم بها حتى تتسع لكثير مما كانت تزخر به الحياة العملية في ذلك العصر. ولعل اشتهار الأحناف بهذا الفن، كان سببه شديد اتصالهم بأصحاب الدولة القائمة؛ ولذلك كان إليهم القضاء. وكان أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة هو قاضي القضاة أيام الرشيد، فهو أول من دعا بذلك.
ولا نريد هنا ذكر الكتب التي ألفت في هذا الفن، ولا بعض المثل التي استعملت فيها تحقيقا لرغبة خليفة أو وزير مثلا؛ ولكن نشير إلى شيء مما كان من ذلك من الإمام أبي يوسف للخليفة هارون الرشيد وزوجته السيدة زبيدة.
24
ونصل أخيرا للعامل الثالث، من العوامل التي عملت على نمو الفقه وتطوره وازدهاره أيام العباسيين، وهو عامل الزمن الذي ليس للباحث أن يغفل نصيبه عند تقدير الأمور، ووزنها الوزن الصحيح.
ذلك بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون في آرائهم وأحكامهم إلى كتاب الله المحكم وسنة رسوله الصحيحة، ثم ضم التابعون من بعدهم إلى هذين المرجعين الأصليين ما أثر لديهم من أقوال فقهاء الصحابة وآرائهم.
فلما جاء أتباع التابعين - ومنهم أبو حنيفة - وجدوا هذه الثروة تزيد بالمأثور من ذلك عن التابعين. وهكذا وجدوا بين أيديهم ثروة كبيرة يعملون فيها عقولهم، وتساعدهم على الاجتهاد بالرأي للوصول إلى حلول وأحكام للمسائل والمشاكل التي واجهوها أو واجهتهم في زمانهم.
هذه العوامل كانت تعمل إذا مجتمعة على نمو الفقه وازدهاره، وعلى ظهور تشريعات لم تكن موجودة من قبل؛ لأنه لم تكن ظهرت الحاجة إليها.
Halaman tidak diketahui