93

ووافق السؤال هوى من نفس الحكيم فأوجز الأمر للوزير وأنصت يترقب منه الجواب.

قال الوزير: سر التوفيق في حكومة هذه الأمة أن يتم فيها الأمر الجليل كما يتم الأمر الصغير، وليس فيها من يعتقد أنه يريده كل الإرادة أو يأباه كل الإباء، وإنهم قد أحسنوا الخصومة في الجد ؛ فالغالب منهم والمغلوب في رياضة لا توغر الصدور ولا تحفظ القلوب.

خليفة دانتي

قضى المعري أياما في البلاد الإنجليزية وهو يستمع إلى الأنباء التي تفيض بها الصحف رثاء لشاعر الطليان «جبريل دننزيو» وتعقيبا على أدبه ومغامراته في الحب والحرب والسياسة. فسأل صاحبه: من يكون الرجل الذي يلغطون به هذا اللغط في بلاد ليس بينها وبين بلاده صفاء، ويوشك أن يستعر بينهما لهيب الجفاء والبغضاء؟

قال صاحبه: هو خليفة دانتي!

قال المعري: الآن زدتني به معرفة! ومن دانتي يرحمك الله؟

فثاب التلميذ إلى نفسه وهو يعتذر من فلتات وهمه! فقد طالما اقترن اسم المعري باسم دانتي في قراءاته حتى حسب أنهما متعارفان، وأن المعري لا يجهل اسم قرينه ولا يغيب عنه أثره وتاريخه، فقال: حسبتك يا مولاي تعرفه وتعرف الصفة بينك وبينه، فقد زعم بعض الأدباء من أبناء الأندلس المحدثين أنه تلميذك وأنه اقتبس منك روايته المقدسة؛ لما بينهما وبين رسالة الغفران من المشابهة. فهي رحلة بين الأرض والفردوس والجحيم، ومقابلة للأدباء وذوي الشهرة من الصالحين والغاوين، وحكاية لما يصنعون في الدار الآخرة قياسا على ما كانوا يصنعون في الدار العاجلة. وقد سبقني الوهم حتى كدت أسألك: أصحيح أنه أخذ منك تلك الرواية؟ وإنما الصواب أن أسأل «دانتي» لو لقيته كما لقيتك، فهو أقمن بجواب ذلك السؤال.

قال المعري: وماذا فعل خليفته؟ أتراه كتب رسالة أخرى على نمط رسالة الغفران؟

قال التلميذ: كلا يا مولاي وإنما يسمونه خليفة «دانتي» لأنه أشهر شعراء الطليان في العالم الحديث كما كان أشهرهم في زمان. أما مادة الأدب فلا مشابهة فيها ولا مقاربة، بل لعلهما أقرب إلى المناقضة والمباينة في كثير من الأقوال والنزعات والأخلاق. •••

واسترسل التلميذ في شرحه وهو لا يحسب إلا أن الحكيم مسترسل في صمته ليستزيده من الشرح والتفصيل، فجعل يقول: لقد كان دانتي عذريا في هواه متدينا في شعره صارما في حياته. أما خليفته فمذهبه في الحب إشباع الشهوات واستنفاد متعة الحياة، ومذهبه في الدين مذهب أهل العصر من الشك والإباحة ، وسجيته أقرب إلى العربدة منها إلى الصرامة وإلى الضحك الثائر أقرب منها إلى العبوس الرصين. وكان دانتي أحرى بالحظوة عند النساء ولكنه لم يحظ منهن بطائل، أما خليفته فهو بين الصلع والقماءة، ولكنه مجدود عند الشواذ من بنات الفن ورائدات الغرائب والبدوات. على أنه كان من الشهوانيين بالأعصاب ولم يكن من الشهوانيين باللحم والجسم، وكانت لذاته رعدة تهز الأوصال ولم تكن أكلة يملأ بها ماضغيه ويحشو بها أحشاءه، فهي وليدة القلق والحركة وليست وليدة الترب والاستنامة، وكأنها قد أصبحت بذلك في زعمه أقرب إلى الطموح والمثل الأعلى، وأبعد من الغواية والإسفاف.

Halaman tidak diketahui