معناه ليست لنا عقول
وليس في هذه الأبيات إنكار لوجود الإله، وحسبك منها قوله: «قلنا صدقتم، كذا نقول»، لكن يؤخذ من ظاهرها إثبات الزمان والمكان له تعالى، وهو ما لا يقول به إلا المجسمة وأضرابهم، تنزه الله عما يقولون. وقد ذكر صاحب معاهد التنصيص أن الفخر الرازي أورد هذه الأبيات في كتابه الموسوم بالأربعين، وأعقبها بقوله: «وقد هذي هذا في شعره»، وقد وقفت على نسختين من هذا الكتاب فلم أجده قال ذلك، فلعل العبارة تحرفت على صاحب المعاهد، فتوهم منها ما ذكره. ولما كان المقام يحتاج إلى تفصيل لاستيضاح ما يرمي إليه أبو العلاء، اقتضى أن ننقل إليك عبارة الأربعين، ثم نعقبها بما ظهر لنا في هذه الأبيات. قال «الفخر» في مبحث حدوث العالم، وإيراد شبهات المخالفين وردها:
السؤال الرابع: إذا قلنا كان الله موجودا في الأزل، وسيكون موجودا في الأبد، فقولنا «كان» يفيد أن أمرا كان موجودا وحاصلا، وقد انقضى وما بقي. ويكون يفيد أن أمرا سيصير موجودا وحاصلا، وبعد ما حصل. فإذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون، فهو محكوم عليه بكونه متجددا متغيرا، فذات الله تعالى لما كان واجب الدوام، ممتنع التغير، وجب أن لا يصدق عليه ألبتة أنه كان في الأزل، وسيكون في الأبد، وأنه كائن الآن . ثم لما جربنا عقولنا وجدناها حاكمة بأن كل ما لا يصدق عليه أنه كان قبل وسيكون بعد وأنه كائن الآن، فهو عدم محض. وعند هذا قال المنكرون إنكم لما أثبتم ذاته منزهة عن الجهات والأيون والأوضاع، خرج هذا الإثبات عن العقل، واقترب من العدم المحض؛ ثم إنكم لما أثبتموه منزها عن أن يصدق عليه قولنا كان ويكون وهو كائن، فهذا تصريح بالعدم المحض. فإن أدخلتموه تحت قولنا كان ويكون وهو كائن، اقتضى ذلك الحكم بكونه متجددا متغيرا، فكيف الخلاص من العقد المحيرة، والمضايق المضلة المعمية. ونظم المعري هذا المعنى في شعر له فقال ... انتهى.
ثم أورد الأبيات، إلا أنه روى مكان قوله «زعمتموه»، «ثم زعمتم»، وشرع في الرد على هذا السؤال. فقال:
الجواب عن السؤال الرابع: وهو قوله إن كل ما يصدق عليه كان ويكون فهو متجدد متغير، فنقول: المراد من قولنا كان ويكون استمراره مع الأزمنة الآتية والأزمنة الماضية، من غير أن يكون متغيرا بحسب تغير هذه الأزمنة؛ وهذا المعنى لا يدركه إلا العقل الذي نوره الله تعالى بنور هدايته، وإن كان الوهم والخيال يعجزان عنه. انتهى كلامه.
ثم ساق حجج المشايخ على بقاء الصانع بما يخرج عن قصدنا هنا.
ولا يخفى ما في قوله إن هذا المعنى لا يدركه إلا العقل الذي نوره الله بنور هدايته. فإذا علمت هذا، ثم علمت أن مذهب السلف رضي الله عنهم في الصفات النقلية، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا ونحوها، أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها والتصديق بها من غير تفسير ولا تأويل، مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه، لئلا يضاد النقل العقل - ظهر لك أن عبارة أبي العلاء إنما ترمي إلى هذا المعنى، وتشير إلى هذا القصد؛ فمراده أن مثل هذه الأمور لا تتسع العقول لإدراكها، بل هي مما استأثر الله بعلمه. وليس في الأبيات ما يمنع من حملها على ذلك. بل كيف يتصور في الرجل اعتقاد التجسيم ونحوه، وهو القائل في موضع آخر:
تعالى الله وهو أجل قدرا
من الإخبار عنه بالتعالي
ومن يذهب في التنزيه إلى هذا الحد لا يتصور فيه اعتقاد التجسيم. ثم اعلم أن مذهب السلف يرجحه كثيرون من المتكلمين. وكان الإمامان مالك والزهري يقولان به، بل هو عقيدة الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه إلى يومنا هذا. وإنما رجحوه لما فيه من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى، وهو الأوفق لحمل العامة عليه، صيانة لعقولهم عن الزلل، كما فصله الإمام الغزالي في «إلجام العوام، عن علم الكلام». وقد وقفت على فصل للفخر الرازي في تفضيل هذا المذهب، ذكره في تفسير الكبير عند قوله تعالى:
Halaman tidak diketahui