وقد كان من حسن حظها أن لبيتم دعوتها، ورضيتم أن تشاركوها في مسئوليتها، وأن تضحوا من وقتكم وراحتكم شيئا كثيرا في سبيل تحقيق التعاون بين الأمة والحكومة، ووضع الحجر الأساسي لحياة مصر المستقلة. لذلك لا يسعني إلا أن أهنئكم بهذا الشعور، وأن أسديكم خالص الشكر على العون الجليل الذي لا شك في أن الحكومة ستناله من اشتراككم معها، وإن شكري لكم ليزداد إذا ذكرت الضجة التي أقيمت حول مسألة وضع الدستور، وأنها لم تصرفكم عن سماع نداء الضمير والواجب.
إن الحكومة لم تقتصر في الدعوة إلى معاونتها على فريق دون آخر، بل وجهتها أيضا إلى من قضت عليهم الظروف بأن يعتبروا أنفسهم خصوما سياسيين لها، غير أنهم - للأسف - لم يريدوا أن يصافحوا اليد التي مدت إليهم، وأبوا أن يتقدموا إلى المشاركة في هذا العمل الوطني الخطير، ولعمري إن في تصرفهم ما يقضي بالعجب؛ فإن مصير الدستور أن يطبق على الأمة جميعها لا على طائفة دون غيرها، وكنت أستبعد أن تدخل الشخصيات في شأن يجب بطبيعته أن يعلو على كل تلك المنافسات، ولقد أعجب أكثر من ذلك أن أراهم يخطئون النظر حتى من وجهة مصلحتهم الخصوصية؛ فلقد كان اشتراكهم في عمل اللجنة يسمح لهم بالاطلاع على كل ما يجري فيها، ويمكنهم من الوقوف على حقيقة ما جرت به ألسنة السوء، وليتبينوا أن ليس هناك أمور مقررة من قبل تعرض على اللجنة لمجرد الشكل. ولقد فاتهم برفضهم الدخول في اللجنة - فرصة ما كان أحقهم بالحرص عليها - فرصة عرض آرائهم والإدلاء بحججهم. واللجنة بين أن تأخذ بها فيتضح لهم أنها لم تكن متحيزة أو صادرة عن غرض أو هوى، أو أن ترفضها فيكونوا قد أراحوا ضمائرهم والحساب بعد ذلك بيد الأمة. لا أدري مقدار ارتباط هذا الرفض بالحركة التي روجت منذ أيام للدعوة إلى عقد جمعية وطنية وما إذا كانت سببا أو نتيجة، على أن ذلك لا يعنيني الآن، وإنما يعنيني تمحيص هذه الآراء، خصوصا وأن تلك الدعوة كان ينطوي فيها شيء ليس بالقليل من سوء الظن بالحكومة، وتهمتها في إخلاصها. إني أترك جانبا ذلك الفريق الذي يدأب على تحدي الحكومة ومناوأتها وإقامة العراقيل في وجهها مهما جر ذلك على البلاد من الشر والوبال.
أما الفريق الثاني: فإنه يحكم على الأشياء حكما نظريا صرفا، ويخطئ تطبيق النظريات على الواقع، أولئك هم الذين يزعمون أنه لم يوضع دستور إلا على يد جمعية وطنية، وأنه لا يصح دستور إلا إذا كان كذلك.
علمنا أن القوانين الدستورية وتواريخها ومبادئها معروفة ومنتشرة بين جميع الناس، وفي وسع كل إنسان أن يرجع إليها؛ ليعرف مقدار نصيب تلك النظريات من الصحة، ويمكنني أن أقول لحضراتكم أن الأمر في وضع القوانين الدستورية ليس على ما يذكرون؛ فإن كثيرا من البلاد الأوروبية وغير الأوروبية لم تكن قوانينها الدستورية وليدة جمعية وطنية. وأذكر على سبيل الاستدلال تلك الأمة العظيمة التي قطعت شوطا كبيرا في سبيل الحضارة والمدنية، وأعني بها الأمة اليابانية، وهي تلك البلاد التي أصبحت في مركز لا أريد أن أغالي فأقول إن أمم أوروبا تحسدها عليه، ولكن مركزها على كل حال مما تغبط عليه. أما أمم أوروبا فإن بعضها كان الدستور فيها من عمل جمعية وطنية، ولكنها الأقل عددا، والسبب في تولي الجمعية الوطنية هذا العمل يرجع إلى ظروف استثنائية خاصة كالثورة أو زوال السلطة الشرعية فيها، وحلول سلطة مؤقتة عليها. أما الأمم الأخرى فقد سارت في وضع دساتيرها على الطريق العادي، وصدرت دساتيرها من ملوكها، وأذكر على سبيل المثال إيطاليا والنمسا والبرتغال وتركيا.
فيجب أن لا يغيب عن أذهان أولئك القائلين بنظرية الجمعية الوطنية تلك الفروق بيننا وبين من اضطرتهم أحوالهم الاستثنائية إلى الالتجاء لجمعية وطنية لوضع نظام حكوماتهم، إذ إننا - ولله الحمد - لسنا في حالة من تلك الأحوال.
على أنه فيما يتعلق بمصر يجب لأجل تعيين السلطة التي تتولى وضع الدستور الرجوع إلى قانوننا العام، وقد جرى الأمر فيه على أن تصدر القوانين النظامية من ولي الأمر سواء كان ذلك في إنشاء مجلس الوزراء - وهو أول حجر وضع في بنيان النظام الديموقراطي في مصر - أو ما في تلا ذلك من النظم النيابية التي أوجدت نوعا من الاشتراك بين الأمة والحكومة، وهي قانون مجلس شورى النواب، وقانون مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، والقانون الذي أنشأ الجمعية التشريعية، وإذا كان قانون سنة 1882 قد شذ عن هذا القياس فإن ذلك يرجع إلى أنه في ذلك العهد كانت ثورة على العرش دعت إلى اغتصاب وضع الدستور من صاحب السلطة في وضعه، وهذا ما يؤيد ما نذهب إليه من أن وضع الدستور بطريق ولي الأمر ليس فيه افتئات على حقوق الأمة أو خروج عن القواعد المألوفة.
قد يقول قائل إذا لم يكن الدستور من وضع جمعية وطنية فإن في وسع ولي الأمر أن يسترده في أي يوم من الأيام. وهو قول لا يقول به إلا كل رجل يجهل مبادئ القانون الحديث وتطوراته؛ لأنه مهما يكن من طريقة وضع الدستور وإصداره ، فإن استرداده بعد ذلك محال؛ إذ إنه بمجرد صدوره يصبح حقا مكتسبا للأمة.
إنهم يقولون إن الجمعية الوطنية هي الوسيلة الوحيدة للوقوف على رغبات الأمة وحاجاتها، وأخشى أن أقول في هذا إنه حق يراد به باطل؛ لأنه حتى مع التسليم جدلا بأن المبادئ العامة في مصر تسمح بأن مثل هذا العمل تتولاه جمعية وطنية، فإن هناك أشخاص يعملون منذ زمن على ترويج سوء الظن بالحكومة، وعلى التقليل من أهمية ما وصلت إليه البلاد، وعلى التشكيك في ما نحن قادمون عليه، بحيث إذا اجتمعت جمعية وطنية سادت فيها تلك الآراء والنزعات، وانقلب العمل فيها إلى معارضة وتهويش وتعطيل تمتنع معه كل نتيجة صالحة؛ بل يخشى أن ينقلب وبالا على البلاد؛ ذلك أنه بالرغم من أن البلاد نالت فوزا عظيما بإعلان استقلالها واعتراف الدول به، إلا أن المسألة المصرية لم تسو بعد تسوية تامة نهائية؛ إذ لا يزال أمامنا مفاوضات يجب أن تمكن مصر من الوصول إلى دورها موفورة القوة تامة النظام لم تفسد عليها عوامل الشر والفوضى آمال النجاح فيها.
يدعون أننا بعملنا هذا نرمي الأمة بالعجز والقصور عن تقدير مصلحتها، فالله يعلم أننا نجل أمتنا كل الإجلال ونضعها فوق كل اعتبار، وأن هذا نفسه هو الذي يدعونا أن نقيها في هذه الآونة الدقيقة من عوامل الفساد ودواعي التضليل، ولعمري لأن نتهم تهمة سيتجلى وجه الحق فيها بعد قليل خير لنا من أن نترك البلاد تسود فيها الفوضى ويجري الشغب فيها مجراه؛ فإن التهمة إذا اصطدمت بالواقع المحسوس زائلة، ولكن أضرار الشغب والفوضى هائلة، وآثارها باقية.
وأريد هنا أن أتساءل عن قيمة المخاوف والشكوك التي يريد بعضهم أن ينشرها بين الناس، ويحيط بها عمل الحكومة واللجنة.
Halaman tidak diketahui