كل هذه المزايا العظيمة كانت الحماية تحول بيننا وبين التمتع بها، فقد زال هذا الحائل بزوال الحماية، وأصبحنا في حل من التمتع بها، واجتناء عظيم ثمراتها.
هذه خطوة كبرى خطوناها في سبيل الاستقلال التام، وبلغنا بها الشيء الكثير الذي لا يستطيع نكرانه إلا غافل عن الحقيقة الناصعة أو متغافل. أما بقية أمانينا وتكملة مطالبنا، والشيء الذي ينقص استقلالنا فهذا منطو في المسائل التي احتفظت بها بريطانيا، معلق على تسويتها تسوية نهائية في المفاوضات المقبلة التي سيكون لبرلماننا الحق في تحديد موعد افتتاحها، وانتخاب المفاوضين فيها والإشراف عليهم.
هذه المسائل التي احتفظت بها بريطانيا لم يقل قائل، ولا خطر على بال إنسان أنها قضاء محتوم لا دافع له أو ضربة لازب باقية على الأبد، أو أن بريطانيا قد احتفظت بها بصفة نهائية لا تقبل تحويلا ولا تغييرا، وإنما هي شيء عارض لمدة مؤقتة اقتضته ظروف ذلك التطور السياسي العظيم، كما ورد ذلك صراحة في تصريحها الخطير.
فاستقلالنا في الحالة الراهنة، وحتى تتم التسوية النهائية بشأن هذه التحفظات في المفاوضات المقبلة التي سيشرف عليها البرلمان؛ إنما هو استقلال حكمي أكثر منه استقلالا فعليا، وإن كان قد أنتج بعد نتائج فعلية عظيمة الشأن كالتي ألمعنا إليها آنفا من ارتفاع الرقابة الإنكليزية عن أعمال الحكومة في كافة أركان الحكم والإدارة ، وكالذي يسري الآن في البلاد من مبدأ مسئولية الوزارة أمام الشعب ممثلا في برلمانه المشروع في إنشائه.
لذلك لا ندعي أننا قد نلنا أقصى أمانينا وأنا قد بلغنا الغاية، ولم يدع ذلك رجالنا العاملون المخلصون، ولا ادعاه بطل النهضة الحالية وفارس حلبتها دولة الرئيس العظيم ثروت باشا، فقد أورد دولته في غضون رده على تهنئة الحكومة البريطانية بمناسبة إعلان استقلال مصر هذه العبارة الآتية التي جمعت بين أدب الكاتب النحرير ودهاء السياسي القدير، والتي يتألق في ديباجتها المصقولة - مع طلاوة رقة الخطاب ولينه - شعاع الوطنية الحارة، ووهج الغيرة الملتهبة على مصلحة البلاد ومستقبل الأوطان، فذكر دولته المركيز كرزون - صاحب التلغراف الآنف الذكر (مع حسن رده على التهنئة بأرق منها عبارة وألطف إشارة) بذلك الأمر الجليل وهو أن مصر لم تقنع بالحالة الراهنة، وأنها أشد ما كانت يقظة وانتباها ومطالبة بباقي حقوقها، فذلك حيث يقول دولة الرئيس في ذلك الرد:
وإنا لنعرب لفخامتكم عن تقديرنا لجميل ما أظهرته حكومة صاحب الجلالة البريطانية، وأظهره البرلمان البريطاني من الميول الحسنة، ونعتمد على هذه الميول في الحصول على تسوية تامة للمسألة المصرية تقع على أحسن وجه وأدعاه للمحافظة على صلات الود والثقة بين البلدين، ولتنمية هذه الصلات.
نحن لا نقول لأمتنا الكريمة قد أدركنا الغاية ونلنا المدى، وبلغنا أقصى منتهى المنى والآمال فاحبسوا أعنة السعي، وأريحوا مطايا الجهاد، وأرخوا قسي النضال، وأغمدوا سيوف الجلاد، وافترشوا مهاد الراحة، وتوسدوا وثار الدعة، وتمرغوا في حجور الصفو، وتقلبوا بين أعطاف النعيم، ولو قلنا لهم ذلك لكنا لهم خادعين وبهم مغررين، ولحق لهم إذ ذاك أن يتهمونا بما به يصموننا الآن زورا وبهتانا من التعمية والتضليل، ولكنا من وجهة أخرى لا نقول مع جماعة المعارضين إننا على حالنا الأولى لم نتقدم قيد فتر ولم نتأخر، ولا نجاري المغالين منهم في زعمهم ما هو أكثر من ذلك؛ إذ يقولون ما نلنا خيرا بل شرا ولم نتقدم خطوة نحو البغية بل تأخرنا خطوات، وأن الوزارة - معاذ الله - لا تناصر الأمة بل هي إلى خذلانها أميل، وأن القادة الأمجاد (الذين سخرهم الله لخدمة الشعب وإظهار حجته وتأييد قضيته) لا ينهضون بالوطن إلى ذروة المجد والعلاء بل يهبطون به - لا قدر الله - إلى الوهدة. نحن لا نقول ذلك لأنا لا نعتقده، ولأنه غير الحق، ولأن شفاهنا لا تطاوعنا على قوله، وتنقطع من دون النطق به ألسنتنا، ولو فعلت لكذبتها الدلائل الساطعة، والشواهد الناصعة التي قد أبانت للملأ بأوضح الأدلة، وأثبتت للعالم بأظهر الآيات البينات أن حكومة اليوم هي غير حكومة الأمس، وأن دولة رئيس الوزارة وأصحاب المعالي زملاءه لم يتربعوا في كراسي الحكم إلا على شروط استمدوها من الرأي العام وإرادة الأمة، وأنه لو لم تعترف إنكلترا بإلغاء الحماية وباستقلال مصر لما قبلوا الوزارة، ولما تسنى لجلالة الملك أن يكل إليهم العناية بأمر النظام الأساسي، فهم - من هذه الوجهة ومن وجهة مشاركة الأمة في كفاحها وجهادها، لا يمكن فصلهم عن مجموع الأمة واعتبارهم حكاما بالمعنى العتيق المنقرض؛ يتحكمون في الشعب تحكم العاسف المستبد الذي لا يحترم إرادة الأمة ولا يعترف بسلطتها المقدسة - كما كانت الحال في العهد السالف.
ذلك عهد قد انقرض وباد، وقد أصبحنا اليوم في عهد جديد ميمون تتضافر فيه الأمة والحكومة معا على تقويض صرح الاستبداد ونسف دعائمه، واستئصال جرثومته لتغرسا شجرة الحرية المباركة - أعني شجرة سلطة الأمة التي تزرعانها في تربة الوطن العزيز بين رفات الآباء والأجداد وتسقيانها دماء الشهداء من أبناء الأمة - لتزكو على ضفاف النيل المبارك، وتنفح ببرد ظلالها عظام العرب والفراعنة في أجداثهم، وتغدق على الأبناء والذرية ثمارها اليانعة الجنية.
فالوزارة اليوم من الأمة، والأمة من الوزارة، وهما في الحقيقة كتلة لا تنقسم، ووحدة لا تقبل التجزئة، وحلقة مفرغة لا يعرف أين طرفاها. هذا من حيث الإخلاص في الوطنية وصدق الحمية وفرط الغيرة والتضحية والتفاني في خدمة القضية، وإن اختلفت منهما الوسائل والذرائع، كل يؤدي في خدمة الوطن وظيفته، فالحكومة ترسم الخطط والبرامج، وتمهد السبل والمناهج - كفرقة الكشافة في الجيش العرمرم - والأمة من ورائها كالجند تتقدم وتزحف محتلة من المواقع الحصينة والأماكن الخطيرة ما يذلله لها فرسان الطليعة.
بيد أنه لا يفوت الأمة أن هذه الطليعة أو الكشافة (أعني الحكومة) قد لا تستطيع - ولا سيما في مثل ظروفنا الاستثنائية المترتبة على تطورنا الفجائي - أن تنجز كل هذه الأعمال التمهيدية في بضعة أيام أو أشهر (مهما تاقت القلوب وأولعت النفوس بسرعة هذا الإنجاز) وأنه لا بد للجيش (أي الأمة) أن يمهل طليعته الكشافة، ويعطيها الكفاية من الوقت ملتمسا لها وجه العذر، مقدرا حرج مركزها وصعوبة موقفها، معاونا لها بما قدره عليه الله من حسن المؤاتاة والمسامحة والملاينة والصبر الجميل والتأييد والتشجيع، ذاكرا تلك الكلمة المأثورة لرجل الدهر نابليون بونابرت: «الدنيا بحذافيرها تنساق في النهاية لمن يعرف كيف يصبر.»
Halaman tidak diketahui