ولقد ارتكب دوجلاس من الخطأ في هذا الاجتماع الأول ما عده عليه المنصفون أنه أفحش أخطائه جميعا في هذا النزال كله؛ وذلك أنه أبرز مكتوبا موقعا عليه باسم لنكولن يفهم منه أن أبراهام من زعماء المتطرفين، ولكن سرعان ما أقام أبراهام الدليل في دوره على أنه زائف، وأنه مما جاء فيه براء، وكانت لطمة قوية استخزى لها دوجلاس في سامي منزلته، وفقد بعدها ثقة الكثيرين.
وحل موعد الاجتماع الثاني فتسابق الناس إليه أفواجا، وقد اشتهر أمر ذلك الصراع؛ إذ لم تبق صحيفة إلا وقد أسهبت في الحديث عنه، وفي هذا الاجتماع طعن لنكولن خصمه طعنة لم يفطن أول الأمر إلى خطرها، فلقد أعد له سؤالا ليلقيه عليه: إذا أرادت ولاية أن تلغي الرق فيها، فهل هي مستطيعة أن تفعل ذلك دون أي حرج؟ ولقد أنكر عليه أنصاره هذا السؤال؛ إذ لم يفهموا الغرض منه، وهم يعلمون أن دوجلاس سيجيبه: بلى، تستطيع الولاية ذلك. فقال لهم ولكنه يفقد بذلك عطف الجنوبيين وإن كسب عطف أهل إلينوى من خصوم الرق، ولن يضير لنكولن أن يظفر دوجلاس اليوم بمقعد في مجلس الشيوخ ويفشل غدا إذا هو تطلع للرياسة!
ووجه لنكولن السؤال إلى دوجلاس فأجاب بقوله: «نعم، تستطيع الولاية أن تفعل ذلك في غير حرج.» وابتسم أبراهام وهو يدرك ما سيكون من وقعها في نفوس أهل الجنوب، ولقد برهنت الأيام فيما بعد على بعد نظره، ومما قاله لنكولن في ذلك: «إن دوجلاس يتبعه عدد كبير من العميان، وإني أريد أن أجعل بعض هؤلاء يبصرون.»
وفي الاجتماعين الثالث والرابع لم يأت كلاهما بجديد، وإنما اجتهد لنكولن في مدافعة ما رماه به خصمه من اتهامات، ولوحظ على دوجلاس في الاجتماع الرابع أنه كان ضائق الصدر، يروح ويغدو على المنصة أثناء تكلم خصمه وهو مربد الوجه زائغ البصر، ينظر الفينة بعد الفينة في ساعته حتى نفد الوقت المحدد فصاح به: «اجلس يا لنكولن! اجلس قد انتهى زمنك.» ونظر الخطيب إليه في هدوء وقال: «أجل، أحسب وقتي انتهى.» ورد أحد الجلوس قائلا: «حسب دوجلاس ما لاقى.»
وفي الخامس من هاتيك الاجتماعات اتخذ لنكولن خطة الهجوم، بعد أن أخذ ينشر خصمه ويطويه في الاجتماعين الماضيين حتى دوخه، وكان هجومه شديدا ضاق به دوجلاس وانخلع عنه مكره، فقد عاب عليه لنكولن أنه لا يحفل بالاعتبار الخلقي في النظر إلى الرق، مع أن النظرة الخلقية بعد الخروج على اتفاق مسوري هي الوسيلة الوحيدة التي يعول عليها في منع انتشار الرق، وعلى ذلك يكون دوجلاس داعية إلى أن يصبح الرق مسألة قومية عامة، لا تحرج ولا تأثم منها!
وأحس دوجلاس مهارة الرمية فراح يرد على رمية برمية، وعاد فاتهم لنكولن والحزب الجمهوري أنهم من دعاة الثورة، وأنهم يدفعون البلاد إلى الدمار.
ولكن لنكولن جعل الاجتماع السادس لتحديد مذهب الحزب الجمهوري، فقال في جلاء:
إن الجمهوريين هم أولئك الذين يعدون الرق خطأ من النواحي الخلقية والاجتماعية والسياسية، ولكنهم يتمسكون بدستور الاتحاد ويسيرون في تحقيق أغراضهم على نهجه، أما الذين لا يرون عيبا في الرق فهم الديمقراطيون، وهم ليسوا من الجمهوريين في شيء، كذلك ليس من الجمهوريين من لا يعبئون بالدستور في موقفهم من مشكلة الرق، مهما بلغ من مقتهم لذلك الوزر.
وحار دوجلاس ماذا يفعل أمام تلك القوة وأمام ذلك الوضوح الذي لا يدع مجالا لمستريب، فأخذ يداجي ويعبث، وتثعلب بعدما سبق أن استأسد.
وضيق لنكولن عليه الخناق بسؤال آخر طلب إليه أن يجيب عنه في غير مداجاة، فقال: «أيعد الرق صوابا أم خطأ؟» وازدادت حيرة المارد الصغير، وأحس أنه على جبروته يتلوى في قبضة ذلك العملاق، وأحس لنكولن مثل ما كان يحسه من ثقة في قوة ساعده، أيام كان يهوى بفأسه في الغابة على جذع من تلك الجذوع التي ما كانت تقوى عليه مهما بلغ من متانتها، ولكنه اليوم يحس الثقة في قوة قلمه ولسانه.
Halaman tidak diketahui