ولنعد إلى ما كنا بصدده من حديث ذلك المنصب الذي طمع فيه؛ لما بلع لنكولن وشنطون تبين أن هناك منافسا خطيرا له ولصاحبيه موريسون وإدوارد؛ وذلك هو بترفيلد، وكان لهذا الأخير شفعاء من بعض ذوي النفوذ، وكان لا ينكص عن السعي لديهم بكل وسيلة بينما كان لنوكلن مترددا يقدم رجلا ويؤخر أخرى، أشار إلى ذلك صديقه هرندن في قوله: «لقد كان يخالج لنكولن شعور خفي من الأنفة والكبرياء، فضلا عما كان ينقصه من إصرار، فكان ذلك الشعور الخفي يأبى عليه تلك المرونة في الرأي، التي لا بد منها لطالب وظيفة رسمية كي ينجح في تحقيق طلبه.» وقال لنكولن نفسه في هذا الصدد: «ليس ثمة عندي ما يجعل لي من الحول ما أطلب به منصبا من الدرجة الأولى، وإن منصبا من الدرجة الثانية لا يعوضني عما عسى أن ألقى من سخرية ممن يطلبونه لأنفسهم.»
ويريد الرئيس أن يجامله فيعرض عليه منصبا غيره؛ هو منصب حاكم إحدى المقاطعات الداخلية، ولكن زوجه تقف بينه وبين هذا المنصب، وتصر على موقفها معلنة أنها لن تقبل لزوجها عملا يعود به إلى الأدغال ولا ترجى لهما منه عودة، ويرفض أبراهام المنصب آخر الأمر، وهكذا نرى زوجته للمرة الثانية حريصة على أن توليه القبلة التي لا ترضى له غيرها قبلة، فهل كانت تدري أية خدمة تؤديها بمسلكها هذا لزوجها ولوطنها وللإنسانية؟
إلى المحاماة
عاد لنكولن إلى المحاماة، وقد ترك السياسة وراء ظهره، وإنه ليعزم العزم كله ألا يعود إليها وفي نفسه مرارة منها ومن أساليبها.
وكان قد هجر مكتبه زمنا ليس بالقصير تاركا هرندن يعمل فيه وحده، ولقد بذل هرندن من الهمة والمثابرة ما جعل للمكتب مكانة لا تقل عن مكانة أكبر المكاتب حوله، فلما عاد لنكولن حدث صاحبه أنه يرى أن ليس له أن يشاركه لا في الربح ولا في العمل، وقد بلغ المكتب بفضل جهوده ما بلغ، ولكن هرندن أبى أن يسلم بذلك قائلا له: لقد أخذتني معك وعلمتني ما لم أكن أعلم، وأعنتني على أمري وأنا صغير أحتاج إلى العون، فإن لم أكن كريم اليد فلا أقل من أن أكون حافظا للجميل، وعلى هذا فلن أترك صحبتك ومشاركتك إياي في عملي. وقبل لنكولن وعادا يعملان معا شريكين.
وأحس لنكولن أن السياسة قد باعدت بينه وبين القانون، فلا بد له أن يعوض ما فاته من درس ومذاكرة، فأقبل على كتب القانون إقبالا لم يشهد صاحبه له مثيلا من قبل، فقد ذكر هرندن أنه رافقه أكثر من مرة إلى بعض المحاكم، وكانا يبيتان ليلهما في الفنادق، فكان ينام وصاحبه على سرير واحد أكثر الأحيان، وإن هرندن ليغط في نومه، فما يصحو إلا بعد ساعات فإذا بصاحبه متمدد إلى جانبه وفي يده كتاب كبير من كتب القانون، وإلى جانب رأسه شمعة أوشكت أن تنفد، وقد أوشك الصبح أن يتنفس!
وكان أبراهام في مكتبه يرسل نفسه على سجيتها، شأنه في ذلك كشأنه في كل شيء يتصل به؛ فهو في المكتب لا يعنى بأعماله الكتابية وإنما كان أول أمره يتركها لصاحبه هرندن، ثم كان بعد ذلك يستعين بمن يطلبون المران عنده من الشبان، وهو لا يهتم بأن يكتب حسابا بينه وبين شريكه، وإنما يقسم ما يجيئهما من ربح بينهما، وهو يعطي صاحبه نصيبه في ثقة وأمانة، ولا يعنى بكتابة دفاعه كتابة منمقة بليغة، بل يكتفي بقراءة القضية ودراستها دراسة جيدة، ثم يعتمد على ذاكرته وعلى معونة الله كما تعود أن يقول، وعلى ما يوحي به الموقف وملابسات الحال ومقتضياته عند المرافعة. وكان إذا جلس لدراسة قضية أسند ظهره إلى ظهر كرسيه ومدد رجليه على كرسي آخر، ووضع المراجع على مقربة منه عن يمينه وعن شماله، فما يشغله شاغل مهما جل عما هو فيه حتى يفرغ منه، وما يصرفه عن انتباهه شيء، ولا يحب أن يقطع عليه أحد تيار فكره، ولو لبث على تلك الحال ساعات.
لنكولن المحامي.
وكان قمطره الرئيسي وحافظة أوراقه الهامة هي قبعته الطويلة؛ فقد كانت تتسع بصورة عجيبة لكل ما يدس فيها من ورق؛ حتى لقد عجب صاحبه أشد العجب كيف يضع فيها لنكولن ما يضع، ولو أنه ألقى إليه به ما عرف كيف يدسه في حقيبة صغيرة.
على أنه قد وضع في زاوية من زوايا الحجرة إضبارة من الورق على منضدة صغيرة، وكتب فوق غلافها «فتش في كل مكان، فإن لم تجد فابحث هنا»، وهكذا لم يخرج الأمر عن قبعته وهذه الإضبارة، فلا تصنيف ولا تبويب في الأوراق، ولا عناوين تميزها بعضها عن بعض حسب محتوياتها، ولا شيء من ذلك التقسيم والترتيب للقماطر على نحو ما يحدث في مكاتب المحامين.
Halaman tidak diketahui