وفكر أبراهام فبدا له أنه ينبغي أن يخطو في هذا الانعقاد الثاني للكونجرس خطوة ضد الرق يكون بها داعية لا تابعا لمن يدعون، وما حمله عليها رغبته في أن يكون داعية، وإنما حمله كرهه للرق؛ ذلك الكره المستعر في أعماق نفسه منذ حداثته.
وأثار ذلك البغض في نفسه ما رآه من اشتداد الدعوة في البلاد لمحاربة هذا المنكر، ثم إن منظرا أليما كريها كان يتراءى لأبراهام كلما اتخذ سبيله إلى مقر الكونجرس؛ ذلك منظر حظيرة للزنوج كانت تقع على مقربة من ملتقى رجالات الشعب وصرح حريته، وكان يحشر الزنوج في تلك الحظيرة ريثما يرسلون إلى الأسواق في الجنوب، وأي منظر أدعى إلى اشمئزاز النفوس الكريمة من تقابل هذين الضدين! ولئن كانت مرارة الحزن قد بلغت من نفسه، فإنه آثر الاعتدال والركون إلى الحكمة، وأعد لائحة يرمي بها إلى القضاء على الرق في ذلك الحي؛ حي كولمبيا، فينبغي ألا يكون هناك رق، وإنما يسمح مؤقتا لرجال الحكومة أن يدخلوا الرقيق فيه ليكونوا لهم خدما، وعلى الحكومة أن تدفع تعويضا لملاك العبيد الذين تطلق اللائحة عبيدهم، وعليها كذلك أن تعلم من يولد من السود منذ اليوم الأول من عام 1850 على أن يكونوا أحرارا، وبذلك ينقرض الرق على مر الأيام، واحتاطت اللائحة لمن يأوي من الرقيق إلى حي كولومبيا فقضت بردهم إلى حيث كانوا.
وكيف قنع لنكولن بالقضاء على الرق في هذا الحي فحسب متوخيا في ذلك الحذر كله؟ إن مرد ذلك فيما أرى إلى نظرته العملية إلى الأشياء ورغبته ألا يجعل لأحد حجة عليه، ثم لعله كان يريد أن يجعل من نجاحه، إذا نجح، حجة يحتج بها إذا نشط الرأي العام في محاربة الرق ورغب في القضاء عليه.
ولكنه على الرغم من اعتداله وحذره لم يقدر له النجاح، فإن أنصار الرق في الكونجرس قد ماطلوا في عرض لائحته حتى أوشك دور الانعقاد على الانتهاء، فكان لهم من ضيق الوقت عذر اعتذروا به. ومن يدري، فلعل صاحب اللائحة لا يعود إلى الكونجرس مرة أخرى، وهكذا قدر الفشل لهذه المحاولة. على أن أبراهام سوف يعود إلى وشنطون بعد اثنى عشر عاما، لا عضوا في الكونجرس، ولكن رئيسا للولايات المتحدة، ويومئذ يتجه في معضلة الرق الوجهة التي تمليها عليه خبرته وحصافته ومصلحة قومه.
وأخذ أبراهام أهبته للعودة إلى سبرنجفيلد، وما كان يحس شيئا من ذلك الذي يحسه من يغادر بلدا طاب له فيها المقام؛ وذلك لأن قلبه لم يتعلق بوشنطون تعلق حب أو استمتاع، فمع أنها موطن العظمة ومنتجع الشهرة والجاه، فإنها لم تستهو فؤاده؛ فهي كذلك ميدان الأرستقراطية تعج الحياة فيها بالغرور واللؤم والأنانية والجشع، وهو لا يزال في أعماق نفسه ابن الغابة، أعظم ما يرتاح إليه أن يطلق نفسه على سجيتها، فلا يتصنع ولا يتكلف، ولا يحب أن يلتزم في أمر من أموره بقيد من قيود المدنية وأوضاعها وتقاليدها، وكم عجب الناس في وشنطون من بساطته في كل شيء، ومن قصصه التي كان يسردها عن حياته في الأصقاع البرية وعن نشأته الأولى وفاقته ودينه الأهلي! ولا يزال بعض زملائه في الكونجرس يذكر مرآه ذات يوم وقد سار في الطريق يحمل على كتفيه كتبا ضخمة ربطها في منديل أحمر كبير، وقد استعارها من مكتبة المحكمة العليا، فبدا كأنه بائع متجول، أو كأنه لا يزال ذلك العامل في البريد، ولولا أنهم يعرفونه لما صدقوا أنه عضو في الكونجرس!
وكما أنه لم يأس على مفارقته وشنطون، فإنه كذلك لم يندم على مقامه فيها مدة عامين؛ فإنه قد أفاد خبرة وعلما، وعرف كثيرا من ذوي الشخصيات الهامة، واستمع إلى كثير من الخطب ينطق بها أولو العلم والثقافة، وخبر المناورات الحزبية والمجادلات السياسية في مجال أوسع من مجال المقاطعات، ونفذت عينه اليقظة إلى كثير من محاسن الحياة ومساوئها، واختزنت ذاكرته العجيبة الشيء الكثير من الأمثلة والشواهد والمقارنات.
واتخذ لنكولن سبيله إلى سبرنجفيلد، فمر بشلالات نياجرا وشاهد هذا المسقط المائي الهائل، فأثار منظره شاعريته، يدل على ذلك قوله: «كم ذا تبعث نياجرا الماضي السحيق! إنه عندما كان كولمبس يبحث عن هذه القارة، بل عندما كان المسيح يعاني آلام الصلب، وقبل ذلك عندما كان موسى يقود بني إسرائيل على متن البحر، لا، بل عندما كان آدم لا يزال خارجا من يد بارئه؛ كانت نياجرا تهدر كما تهدر الآن.»
ولقد أشار صديقه هرندن إلى أثر هذا المنظر في نفس لنكولن فقال: «لقد حدث بعد ذلك أن زرت نيويورك وعدت كذلك عن طريق نياجرا، وأخذت بعد عودتي بأيام أقص في المكتب على زميلي ما أردت أن أمتعه به من وصف لرحلتي، وتحدثت فيما تحدثت عن شلالات نياجرا، واسترسلت أثناء وصفي في حميا التصوير، ولما تملكتني حماسة الحديث سايرت ملكة الوصف عندي هذه الحماسة، ووجدت مادة غزيرة لصورة أخاذة في الاندفاع الجنوبي للماء الدفوق وفي هديره وفيضه وانسيابه، وفي قوس الغمام وقتذاك، وأثار تذكري هذا المنظر الهائل المروع قواي الخصبة لتمد أقصى مدها في الوصف والتصوير، ولما كدت أحس الجهد مما حاولت التفت إلى لنكولن أسأله رأيه فقلت: أي شيء أثر في نفسك أعمق الأثر ساعة وقوفك لدى تلك العجيبة العظيمة من عجائب الطبيعة؟ ولن أنسى جوابه ما حييت؛ لأنه يرينا بصورة هي من خواصه كيف كان ينظر إلى كل شيء، قال: إن الشيء الذي راعني أكثر من كل شيء غيره، هو هذا العباب الزاخر كيف تجمع ومن أين جاء؟! لم يمد أبراهام عينيه إلى جمال المنظر وعظمته، ولا إلى تدافع الماء واصطخابه وهديره، ولكن عقله اتجه الاتجاه الذي تعوده فلم يحفل جمالا أو رهبة، وانساق انسياقا لا يقاوم يتقصى العلل باحثا عن العلة الأولى، وهذا هو سبيله في كل أمر ... ولئن كان مرد قوته إلى سر ما، فهذا هو السر.»
طالب وظيفة!
كان أبراهام لا يأمل أن يظفر بترشيحه ثانية للكونجرس؛ بسبب ما جره عليه موقفه من حرب المكسيك من استياء كثير من رجال حزبه، ومنهم هرندن نفسه أحب أصحابه إليه؛ لذلك لم يكن أمامه إلا المحاماة، وهي عمله الطبيعي بعد أن نفض من السياسة يديه، ولكن بعض رجال حزبه كانوا قبيل انقضاض الكونجرس قد زينوا له أن يطلب منصبا رسميا أشاروا إلى حقه في طلبه، وقد أبلى في سبيل نجاح الرئيس ما أبلى.
Halaman tidak diketahui