وأرسلت الجمهورية الناشئة في فرنسا على أثر القضاء على الملكية سفيرا لها بأمريكا، فاستقبله الشعب الأمريكي استقبالا حماسيا، بلغ من روعته أنه كاد ينسي الأمريكان ما كان من حماستهم لزعيمهم الأكبر غداة استقلالهم، ودل هذا على أن الشعور العام في جانب جفرسون، ولكن هذا السفير ما لبث أن أساء استغلال هذا الشعور، فكان يريد أن تخرج أمريكا عن حيادها، فلما رفضت الحكومة بلغ به الحمق أن أراد أن يحتكم إلى الشعب ضد حكومته، وإذ ذاك لم يسع حتى جفرسون نفسه إلا أن يصده عن طريقه في إباء وقوة، ولكن سياسة هذا السفير الفرنسي أضعفت حماسة الأمريكان لفرنسا، وجعلت شعور الكثيرين يميل بعض الميل إلى إنجلترة.
وفي سنة 1794 صمم جفرسون على الاستقالة، وقد حاول وشنطون أن يحوله عن عزمه فلم يفلح، وكان من أسباب استقالته ضيقه بسياسة هاملتون وسياسة الدولة على العموم ومسلك ذلك السفير الفرنسي.
وقامت في السنة التالية ثورة في ولاية بنسلفانيا؛ احتجاجا على سياسة هاملتون المالية، وأظهر جفرسون عطفه على الثوار بأن حمل على القانون الذي أدى بهم إلى الثورة، فإنه يؤمن بحق الشعب في الخروج على جور ذوي الجور، وقد أعلن صراحة أن ثورة الناس على الظلم دليل على وجود الديمقراطية في نفوسهم، وأضاف إلى ذلك قوله إنه يأمل ألا تخلو الدولة كل عشرة أعوام من ثورة أيا كان نوعها.
على أن وشنطون، وإن لم يكن عدوا للديمقراطية، قد قضى بقوة السلاح على ثورة بنسلفانيا، ولم يخف الزعيم الكبير مخاوفه من انتشار أندية الحزب الديمقراطي في البلاد، وذلك في رسالة منه إلى الكونجرس، فثارت بذلك ثائرة الديمقراطيين ووجهوا سهام غضبهم إلى وشنطون نفسه.
وفي سنة 1797 انتهت رياسة وشنطون الثانية، وأصر الرئيس الأول على رفض ترشيحه للمرة الثالثة، على الرغم من إلحاح الناس، واعتزل وشنطون السياسة.
وظن الناس أن الفائز بالرياسة سوف يكون هاملتون؛ لما له ولحزبه من نفوذ، ولكنه لم يرشح ورشح بدله جون آدم من الاتحاديين، ويعزى عدم ترشيح هاملتون إلى أمور كثيرة؛ منها أنه جر عليه وعلى حزبه عداوات عنيفة ما كان أغناهم عنها! ومنها أنه لم يكن أمريكيا بمولده؛ فإنه ابن سفيح لتاجر اسكتلندي، ولعل لما أحاط بمولده غير ما يتعلق منه بالموطن أثرا كذلك في رغبة الناس عنه، كما أن كثيرا من الشائعات جرت حول حياته الشخصية.
على أن الحزب قد لحق به الضعف بخلو الميدان من الرجل الذي أنشأه وقوى دعائمه، كما أن سياسة الاتحاديين - التي عملت على خلق طبقة أرستقراطية غنية تستأثر بالحكم - قد قدر لها الضعف والانحلال بإقصاء هذا الرجل الذي كان حربا متصلة على الديمقراطية، والذي لم يبال عند وضع الدستور أن يقترح أن تكون رياسة الاتحاد وعضوية الشيوخ مدى الحياة، وأن يعين الرئيس حكاما للولايات يكون من حقهم نقض قرارات مجالسها التشريعية، والذي غازل خياله النظام الملكي طيلة حياته السياسية، والذي عمل أثناء حكمه بمبدأ الحماية الجمركية، وجاهد في إنشاء الرأسمالية الصناعية والتجارية، ليبني جيلا غنيا يقاوم به ديمقراطية جفرسون، الذي آمن بالشعب ولم يثق في غير الثروة الزراعية تنمو على أرض واسعة يمكن أن يستمتع بها الجميع. ولئن قدر لها ملتون أن يكون جاعل أمريكا موطن ذوي الملايين، فسوف يقدر لجفرسون أن يكون جاعلها موطن الديمقراطية.
وكانت أكثر الأصوات بعد جون آدم لجفرسون؛ فأصبح هو نائب الرئيس، وصار بذلك الموقف عجيبا؛ فالرئيس ونائبه يمثل كل منهما حزبا من حزبين الحرب بينهما سجال.
أما جون آدم فقد كان شرا على حزبه؛ وذلك أنه جعل العنف سلاحه، فأرسل إلى الكونجرس مشروعي قانونين، قصد بأولهما حماية النظام من العبث به، وكان الآخر خاصا بالأجانب والصلة بهم. ورأى الديمقراطيون أنهم هم المقصودون بذلك، ورأت أغلبية البلاد أن الحرية الوليدة إنما تهيأ لها الأغلال، فهبت العاصفة فزلزلت الاتحادين ورئيسهم، زلزلت مبادئهم زلزالا لم يرجو بعده قوة.
وخرج جفرسون من عزلته وتزعم حركة المقاومة، وكانت كنطكي أول ولاية أعلنت عدم دستورية القانونين، وكتب جفرسون لمجلسها التشريعي ما عرف باسم قرارات كنطكي التي رفضت بمقتضاها اعتماد القانونين في المقاطعة.
Halaman tidak diketahui