ولكن لنكولن وحده بقي على عزمه وثباته، يعالج الموقف بالصبر والحزم، ويهيب بالرجال ألا يتخاذلوا وينكصوا على أعقابهم.
ولقد كان للناس من هذا الصبر وهذا الثبات مثل ما يكون من النصر في معركة، وبذلك قل فزعهم وعادت الثقة إلى نفوسهم ووقفوا إلى جانب رجلهم.
ثم إن الرئيس ضم عددا من الجيوش بعضها إلى بعض، وجعل منها جيشا جديدا وضعه تحت قيادة ماكليلان، وطلب إليه أن يقابل لي بهذا العدد الهائل الذي زاد عن مائتي ألف، ولكن ماكليلان لم يفعل، فأصاب أهل الشمال هزائم أخرى في أكثر من جهة.
ولقد كانت هذه السنة الثانية للحرب أسوأ الأيام التي مرت بالرئيس في حياته كلها، وأي شيء أكثر سوءا من الهزيمة والخذلان؟ وإن الرئيس ليخشى أن تنحل العزائم وتخور القوى، وبخاصة حين أحس الناس أن الحرب لا بد أن يطول أمدها ويشتد سعيرها، وها هو ذا تهامس الأمهات بدأ يصل إلى مسمعيه، وليته كان تهامس الأمهات فحسب، فإن كثيرا من الرجال قد أخذوا يبدون تململهم وتذمرهم، ويعلنون عن رغبتهم في وضع حد لهذه المحنة القومية.
وكان مما يكرب الرئيس ويوجع نفسه أن كثيرا من الناس كانوا يلومونه ويردون سبب الهزائم إليه، ويغفلون عما كان يفعل قواده وبخاصة ماكليلان، ذلك الذي كانت محبته والثقة به من أخطاء الجماعات وأوهامها.
رجحت كفة الجنوبيين في البر ولكنهم في البحر كانوا أذلة، وذلك أنهم لم يكن لهم مثل ما كان للشماليين من الجاريات المواخر فيه، ولقد استطاع أحد القواد البحريين، وهو فراجت، أن يسير في أبريل بسفنه إلى نيو أورليانز فيصليها من ناره ويأخذها عنوة، وكان انتصاره هذا وإذلاله أهل الجنوب على هذا النحو، مما خفف على الشماليين بعض ما راحوا يلاقونه في البر من هوان وذلة. ولسوف تكون هذه القوة البحرية في النهاية عاملا من أهم عوامل النصر، الأمر الذي لم يفطن إليه أهل الجنوب إلا بعد فوات الفرصة.
وظل الرئيس لنكولن في محنة قومه ثبت الجنان حتى لتتزعزع الجبال ولا يتزعزع، ولكنه كان مع ذلك رءوفا عطوفا يكره الحرب ويتألم منها أكثر مما يتألم الناس جميعا، ويتمنى أكثر مما يتمنى غيره أن تضع أوزارها في أقرب وقت؛ ولذلك كان ينكر على المتشددين تشددهم ولا يقر أحدا على قسوة أو يطاوعه في صرامة، فإذا أنس الرئيس من محدثه غلظة على العدو تجهم وأشاح عنه، في حين أنه كان يقبل على من يطلب إليه اللين والمغفرة، وهو يقول له وللناس جميعا إنه يمقت تلك الحرب من أعماق قلبه، وإنه ما دخلها إلا وهو موقن أنه شر لا بد منه، وما أراد بها إلا أن تكون علاجا لمعضلة باتت تهدد كيان بلاده، أما أن تكون انتقاما وعلوا في الأرض واستكبارا، فليس هو من ذلك في شيء.
وكثيرا ما كان يصدر من الأوامر ما يتعجب منه القواد ولا يشايعونه فيه وإن نفذوا ما يأمر به. قدموا إليه في تلك الأيام ورقة بشأن شاب كانت عليه الحراسة ووجد نائما في الخطوط، ليوقع عليها بإعدامه حسب قوانين الحرب، فنظر الرئيس في الورقة مليا ثم أمر فأحضر ذلك الشاب، وكان اسمه وليم سكت، ونظر إليه الرئيس وقال له: «لن ينجيك إلا الصدق فقل الحق، هل نمت في الخطوط؟ وما سبب نومك؟» فقال الفتى: «أجل نمت أيها الرئيس، فلم تكن على النوبة تلك الليلة، ولكني وجدت صاحب النوبة ينتفض من الحمى، وهو من بلد قريب إلى بلدي، فحملت السلاح عنه لأحرس الخطوط، فغلبني النوم، وقد كانت علي النوبة الليلة السالفة فقضيتها ساهرا، وعلى ذلك فلم أستطع السهر ليلتين متتاليتين.» وسأله الرئيس عن بلده وعن بلد صاحبه، فعرف البلدين وذكر طوافه بهما أيام كان يعمل في البريد، ثم سأل الرئيس القواد عن بعض ما جاء في كلام وليم، وأمسك القلم فصاح به الفتى: «من فضلك ... من فضلك أيها الرئيس لا تقتلني ... لا تقلتني.» فنظر إليه الرئيس وقال: «لن أقتلك وإنما أرسلك إلى الخطوط لتجاهد مع المجاهدين.» ونظر الفتى إلى الرئيس والدموع في مقلتيه، فقال له لنكولن: «ولكني أتقاضاك دينا على هذا، فماذا تصنع لسداد هذا الدين؟» فاضطرب الفتى ولم يفطن إلى ما يريد الرئيس، ثم قال في تلعثم وارتباك: «لست أدري ما إذا كان لدينا ما يكفي من المال لأداء هذا الدين، فنحن فقراء، على أن لدينا قليلا منه اقتصدناه، ويستطيع أبي أن يبيع مزرعته، وربما مد إلينا الأصدقاء يد العون، فنجمع بذلك ألفين أو ثلاثة آلاف من الفرنكات، فإذا انتظرت ...» وضحك الرئيس، وزاد عطفه على هذا الفتى، ولم يتكره له لجهله أو ينهره على غباوته، وقال له في رفق: «كلا يا بني، فإن ديني عظيم وليس أداؤه في طوق أسرتك ولا مزرعتك ولا أصحابك، وإنما هناك شخص واحد يملك أن يؤدي هذا الدين، وذلك هو وليم سكت، فإذا أدى وليم واجبه على خير ما يؤدي الجندي واجبه، واستطاع عند موته أن يقول «لقد وفيت بوعدي للرئيس لنكولن»، فعند ذاك يؤدي ما عليه من دين.» وأدى الفتى التحية ومضى إلى الخطوط، واحتج القواد، فقال الرئيس مغضبا: «أيكون جزاء مروءته الإعدام؟ إني لا جلد لي أن أفكر أنني ألقى الله ودم هذا الشاب المسكين على يدي.» وهكذا يأبى الرئيس أن يتقيد بقوانين الحرب، وما يستمد قوانينه إلا من قواعد الإنسانية.
لنكولن وماكليلان.
ونظر الرئيس بعد ذلك بأيام في أسماء القتلى فوقعت عيناه على اسم وليم سكت، فاكفهر وجهه وسأل كيف مات، فأخبر أنه كان يهجم هجوما شديدا على العدو بهر القواد جميعا، وما زال في هجومه حتى صرعته رصاصة، ووجد أصحابه ورقة علقها على صدره، وقد كتب عليها «ليحمي الله الرئيس أبراهام لنكولن»، وما سمع الرئيس حتى ذلك أسرع إلى حجرة قريبة، ودخل عليه بعض قواده بعد حين فوجدوه يبكي!
Halaman tidak diketahui