ارتاع لنكولن للقرار وتربد وجهه وأوشك أن ينفد صبره، وكان يلاحظ من رأوه ساعة أن علم به علامات الهم الشديد على محياه، ولكنهم رأوا كذلك أمارات العزم والصلابة ودلائل الحزم والثبات.
انزعج الرئيس لإثارة مسألة العبيد في تلك الآونة؛ فلقد جعل المبدأ الذي قامت عليه هذه الحرب من أول الأمر المحافظة على الاتحاد، حتى تكون قضية دستورية لا عيب فيها، وبذلك تجد سبيلها إلى القلوب، وتستنهض الهمم بما تثيره عدالتها من حماسة، ولا تدع سبيلا لأحد أن يتهم أهل الشمال بأنهم أوقدوا نار الحرب من أجل أغراضهم، وبدافع عواطفهم في مسألة الرق. وكذلك كان يتحاشى الرئيس إثارة تلك المسألة حتى لا تثور الولايات المحايدة وتنضم إلى أهل الجنوب، ويفقد الرئيس بذلك كل أمل في ضمها إلى جانبه، ومن تلك الولايات مسوري نفسها؛ فقد كان فيها كثيرون ممن يقتنون العبيد، وأهم منها وأعظم خطرا كانت ولاية كنطكي التي ينتمي إليها الرئيس منذ نشأته، ولقد بذل الرئيس كل ما في وسعه للمحافظة على مودة أهلها لتنضم إلى جانبه أو لتبقى على الأقل محايدة، فلموقعها الجغرافي في هذه الحرب شأن أي شأن.
ولكن هذه السياسة الرشيدة العاقلة التي جرى عليها الرئيس ما لبثت أن طاح بها ذلك القرار الطائش، فسرعان ما هاجت الخواطر في تلك الولايات المحايدة، وسرعان ما جزع كثير ممن يسلمون بنظام الرق من أهل الولايات الشمالية.
وعظم خطر هذا القرار حتى أصبح نقطة تحول جديد في الموقف كله. ونظر الرئيس فإذا هو تلقاء عاصفة شديدة من هياج الرأي العام، فإن دعاة التحرير وأعداء نظام الرق ما لبثوا أن هتفوا بالقائد الجريء الحازم، وراحوا يمتدحون خطته بقدر ما أخذوا يعيبون على الرئيس تردده، بل وخوره كما كانوا يزعمون!
وانطلقت الصحف تدعو الرئيس أن يقر فريمونت وأن يحذو حذوه؛ فيعلن قرارا عاما ينطبق على الولايات الثائرة جميعا، ولما وجدوا منه الإعراض والغضب، عصفت برءوسهم النزوات حتى لقد راح بعضهم يدعون إلى إرغام الرئيس على اعتزال منصبه ووضع فريمونت مكانه.
ويتطلع الرئيس بعينيه الواسعتين فإذا بوادر الفرقة والتنازع تكاد تقضي على قضية البلاد، وإذا العاصفة تشتد وتشتد، وإذا هو تلقاء أمر لا يقل خطرا عن الحرب الدائرة.
ولكنه الرجل الذي لم يعرف الفزع يوما ما، وهل يذكر أنه خاف العاصفة مرة حين كانت تنطلق مدوية عاتية فتهتز لها أرجاء الغابة، وتكاد تجتث من شدتها عظيمات الدوح؟ كلا، بل كان يقف منها موقف المتفرج، وذلك الموقف الذي ما كان يطيقه صبي في مثل سنه إلا إذا كان مثله من بني الأحراج الذين ألفوا ملاقاة العواصف.
لم يتردد الرئيس في العمل على إبطال قرار فريمونت، على الرغم مما بدا له من تحمس الرأي العام له، ومظاهرته إياه فيه على نحو ما بينا. ولقد كان من أبرز خلال أبراهام أنه كان لا يعرف التردد أو النكول إذا عقد النية على أمر اقتنع بصوابه ووثق من مقدرته على الاضطلاع به. وما جرب عليه من عملوا معه أنه صمم قط على رأي ثم انصرف عنه، وذلك أنه كان لا يصمم إلا عن بينة وطول أناة وحسن مشاورة، فإذا عزم أذعن له مرءوسوه طوعا وكرها، فما لهم من ذلك بد.
وتصرف لنكولن تصرف السياسي الحكيم، فكتب إلى فريمونت يشير عليه بأن يعدل قراره بنفسه، وأن يظهر للناس أنه يفعل ذلك من تلقاء نفسه، ولكن فريمونت لم يذعن لذلك وكبر عليه أن يتراجع.
ولم ير الرئيس بدا من أن يعلن قرارا يلغي به قرار فريمونت غير عابئ بدوي العاصفة في مسمعيه وفي نفسه، ولا وجل من تصايح الصائحين من دعاة التحرير.
Halaman tidak diketahui