وعظمت حماسة الناس في الولايات الناقمة على الرق حتى ما ينهض لوصفها كلام، ودوت هذه الحماسة في الاتحاد كله، وتألفت فرق من المتحمسين كانت تطوف في البلاد تحمل المشاعل أثناء الليل والأعلام في وضح النهار، وكانت تحمل لوحات عليها اسم لنكولن ولوحات أخرى رسمت على كل منها عين مفتوحة حدقتها إلى أقصى ما يمكن أن تفتح، وسميت هذه الفرق باسم «المقل الساهرة اليقظة».
وسارت فرق غيرها من الجمهوريين في مظاهراتها تحمل قطع الأخشاب، أو تحمل مثالا مصغرا للأكواخ التي درج في أشباهها أول ما درج مرشح الجمهوريين ابن الأحراج؛ أبراهام لنكولن.
ونشط أصحاب لنكولن من ذوي المكانة يدعون له ويعملون على فوزه بكل ما في طوقهم من الوسائل، ومن هؤلاء زميله هرندن، ولندع هرندن يقص علينا بعض الذي حدث، قال: «لقد فرح الجمهوريون بالمعركة ووضعوا أيديهم في أيدي دعاة التحرير، ومشوا جميعا صوب النصر متأثرين بما توجه عبارة لنكولن: إنه ينبغي أن يوقف اتساع نطاق الرق في المستقبل، ويجب أن يوضع الرق بحيث يطمئن الرأي العام إلى أنه مقضي عليه في النهاية بالفناء.
ولما حميت المعركة واشتدت، تقدمت بخدماتي فألقيت عددا من الخطب في بعض مراكز الولاية، وأذكر ذات يوم وأنا ألقي خطبة في بيترسبرج، وقد قاربت موضعا حماسيا منها، أن جاءني رجل قد تقطعت من الجري أنفاسه وناولني كتابا، ولقد ارتعت أول الأمر وفزعت من أن يكون به أنباء عن حادث وقع لأسرتي، ولكم كان ارتياحي عظيما إذ تلوته ولقد جهرت بتلاوته، وكان كتابا من صاحبي لنكولن ينبئني فيه أنه يحق لي أن أغتبط؛ فقد باتت أهايو وبنسلفانيا وإنديانا جمهورية، وكان خط الرسالة ملتويا بعض الالتواء؛ مما يدل على أن لنكولن كان مضطربا لا يملك أعصابه وقت كتابتها. وقد سببت تلاوة هذه الرسالة كثيرا من الهرج، وبعثت في السامعين حماسة شديدة، حتى لقد نسوا أن هناك خطيبا يخطبهم، وخرجوا من القاعة هاتفين صائحين، حتى ما استطعت بعد ذلك أن أتم خطابي.»
وكان لنكولن أثناء المعركة التي بدأت في أول شهر أكتوبر ينتظر ما عسى أن تأتي به، وهو في سبرنجفيلد لا يبرحها، وكان يلقى الناس ورجال الصحافة أثناء النهار في قاعة من قاعات مقر الحكومة في المدينة، وقد اتخذ له كاتبا يرد على رسائله كما ذكرنا. أما في الليل فكثيرا ما كان يختار الجلوس في مكتبه ومكتب زميله هرندن؛ حيث يوافيه عدد من صحابته الأدنين، فيخلص إليهم من مشاغل المعركة ويجلسون هناك جلسات هادئة، يذكر صاحبه هرندن أنها كانت من أجمل ما احتفظ به هو وخلافه من ذكريات صاحبهم العظيم.
وظل الرجل العظيم على عادته يذهب بنفسه إلى مكتب البريد، فيأتي برسائله ويجلس في قاعة لا يتخذ له حاجبا ولا يوصد بابه في وجه أحد، على الرغم مما لقيه من كتب سوداء تنذره بالويل، وكانت بين يديه مئات من مجموعة خطبه يعطيها لمن يسأله آراءه السياسية قائلا في رفق ودماثة: «كأنك يا صاحبي لم تقرأ خطبي؛ إذن فدونك مجموعة منها ففيها تجد آرائي.»
وهو لا يضيق بزائريه مهما كثر عددهم، اللهم إلا فئة لا يرتاح إليهم، ولكن أدبه يجبره على أن يكتم عنهم ضيقه منهم، وهؤلاء هم الذي يظهرون الزلفى ويكشفون عما يبتغون من خير على يد الرئيس المنتظر، إما بالتلويح وإما بالتصريح، لا يعنيهم إلا أشخاصهم، وكان يزدري الرئيس المنتظر هذه الطائفة، ولكن خبرته بالدنيا ومعرفته بطباع الناس كانت تخفف أحيانا من موجدته عليهم، حتى ليكون أقرب إلى الرثاء لهم منه إلى مجافاتهم وبغضهم.
وأمسك أبراهام عن الخطابة أثناء المعركة؛ فقد جرى العرف ألا يخطب في الناس داعيا لنفسه من يرشح للرياسة، وكان خيرا له ما فعل؛ فلقد بين للناس من قبل آراءه، فليدعها على ما هي عليه بينة سهلة لا غموض فيها ولا التواء. ولقد أوحى إلى كاتبه نيكولي أن يكتفي بإرسال نسخة من خطبه إلى كل من يكتب إليه يسأله آراءه السياسية، مشفوعة بكتاب مؤاده أنه بينما يتلقى كتبا من بعض الناس يسألونه رأيه في بعض مسائل السياسة، إذا به في الوقت نفسه يتلقى كتبا غيرها يرجو فيها مرسلوها منه ألا يدلي بآرائه بعد أن بينها من قبل؛ فقد وضحت تلك الآراء عندما اختاره حزبه، وينبغي تجنب ما عسى أن يشيع الاضطراب في المعركة الانتخابية الدائرة، وبهذا يخلص أبراهام من الحرج؛ فلا هو أهمل الرد على سائليه، ولا هو زاد مشاغله بإرسال آرائه السياسية إلى كل سائل.
وكان ينتقل أحيانا إلى بعض جهات المدينة ليشهد حفلا أقامه محبوه للدعوة له. وقد رآه الناس ذات مرة يمشي بين جموعهم على قدميه إلى مكان الاجتماع، وقد اشتد الحر فكان يرتدي سترة خفيفة حال لون صبغتها قليلا، وكان يضع فوق رأسه قبعة تغضنت بعض التغضن من جانبيها، وهو هو لنكولن الذي عرفوه واحدا منهم، يحيي هذا ويبتسم لذاك ويهش لهؤلاء، ويذكر الجميع بأسمائهم، ويطرق برأسه إذ يهتفون باسمه متحمسين؛ فما يجب أن يزهى.
على أن هذا الرجل - وإن كان التواضع من شيمه - لا يحب أن يظهر له أحد شيئا يفهم منه عدم الاكتراث له، كما لا يحب أن يجبهه أحد بالخشن من القول، وهو حتى في مثل هذه المواقف يأبى إلا أن يظل دمثا مهذبا، ولكنه يخرج من الحرج في كياسة وظرف وقد ألقى في نفس المخطئ ما يشيع فيها الخجل، ويحملها في رفق هو أبلغ من العنف على الاحتشام والتأدب؛ ومن ذلك أنه بينما كان ذات يوم يتحدث واقفا إلى بعض الرجال، تقدم شخص بادي الغلظة وجلس على كرسي لنكولن، وكان هو الكرسي الوحيد الخالي، فلمحه أبراهام، وبعد أن أتم حديثه التفت إليه يكلمه، ثم مد يده إليه مسلما وهو على خطوتين؛ بحيث لا يستطيع ذلك الشخص مصافحته إلا إذا نهض من مكانه، واتجه لنكولن إلى الكرسي في هدوء، فجلس وترك ذلك الرجل يعاني الخجل والارتباك! وهكذا يأبى الرئيس المرتقب إلا أن يحرص على دماثته دون أن يسهو عن مكانته.
Halaman tidak diketahui