وفكر أبراهام في أن يزيد كسبه من المال بإذاعة بعض المحاضرات، فأعد أول الأمر واحدة شهد صديقه هرندن كيف أعدها؛ فقد رآه كلما جالت بخاطره فكرة أثبتها في ورقة صغيرة ودسها كما هي عادته في قبعته، حتى تهيأ له موضوع في «الاختراع والاكتشاف والتقدم» فأذاعه على الناس، ولكنه لم يحس فيه من النجاح ما يحس مثله في خطبه السياسية، وما لبث بعد محاولة أو اثنتين غير هذه أن انصرف عن هذا الميدان.
وانهالت عليه الدعوات من مدن كثيرة في الشمال ليخطب الناس فيها، فأعرض أول الأمر عن هذه الدعوات قائلا إنه إن ترك عمله في المحاماة ، كما فعل من قبل، فلن يجد ما يمسك به صلبه وصلب أولاده.
ولكن خصومه لن يدعوا الكيد له ولن يتوانوا عن تشويه مبادئه، وكان لا يزال يرى في دوجلاس أخطر خصومه، لا لما كان بينهما من منافسة، بل لما كان يمتاز به ذلك الرجل من مكر شديد ومقدرة على أن يخدع الناس في سياسة بلادهم؛ ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق أطماعه الشخصية؛ فهو لا يرعى في الحق إلا ولا ذمة.
وكأن دوجلاس لم يكفه ما كان بينه وبين أبراهام من جدال، فعاد يحمل في أهايو على الحزب الجمهوري ويقذفه بما شاء من التهم؛ وإذن فإلى الرد عليه من جديد ما من ذلك بد، وهكذا يعود أبراهام إلى خطبه السياسية.
ذهب لنكولن فخطب في كولومبس وسنسناتي رادا على دوجلاس، وكان مما ذكره في سنسناتي قوله: «إني أعلن أول الأمر لأهل كنطكي أني كما يقولون - ولكن كما أفهم أنا - جمهوري أسود. إني أعتقد أن الرق خطأ خلقي وسياسي، وإني أود ألا تنتشر العبودية من بعد في هذه الولايات المتحدة، ولست أعارض إذا وجدته يسير إلى الفناء في الاتحاد كله.» وقال يخاطب خصوم الحزب الجمهوري: «إننا معشر الجمهوريين نذكر أنكم أخيار مثلنا، وأنه لا فرق بيننا وبينكم إلا ما جاءت به الظروف، ونعلم دائما ونخطر في بالنا أنكم تحملون في صدوركم قلوبا لها من الطيبة ما لقلوب غيركم من الناس، أو مثل ما نزعمه لقلوبنا نحن؛ وعلى هذا الأساس كانت معاملتنا إياكم، ونحن نريد أن نتزوج من بناتكم كلما سنحت فرصة، وأقصد البيض منهن! وإنه ليشرفني أن أعلن إليكم أني قد سنحت لي مثل هذه الفرصة مرة ... أفتقاتلوننا وتقتلوننا جميعا؟ لماذا أيها السادة؟ إن ظني بكم أنكم بواسل أماثل كأحسن ما يكون الناس، وأنكم قادرون على أن تقاتلوا من أجل غرض سام، رجلا لرجل، في شجاعة وإقدام كما يفعل أي قوم غيركم من الأحياء، ولقد برهنتم على أنكم بذلك خليقون في بعض الظروف، ولكنكم رجلا لرجل لن تكونوا خيرا منا، وليس بينكم من هؤلاء الشجعان مثل ما بيننا منهم قوة وعددا، ألا إنكم لن تضربونا، فإننا لو كنا أقل منكم عددا لجاز لكم أن تفعلوا، ولو كنا وإياكم متساوين لتعادلت كفتا المعركة، أما وأنتم أقل منا عددا، فإن محاولتكم السيطرة علينا لن تغني عنكم شيئا.»
هكذا يسير أبراهام دائما على نهج من خلقه؛ فيكون مع خصومه دمثا مهذب الحديث، ولكنه لن يرضى أن يكون لين المغمز ضعيف العريكة. يحفل أبدا بأن يقول ما يعتقد أنه الحق في وضوح ويسر، ويحرص أبدا على ألا يسيء إلى أحد أو يستثير غضبه.
وعاد ينتقد ويفند مزاعم دوجلاس فيما يبدئ فيه ويعيد ما سماه مبدأ سيادة الشعب، فقال: «ما هذه السيادة الشعبية في حقيقة أمرها؟ إنها كمبدأ لن يخرج عن أنه إذا أراد أي رجل أن يستعبد رجلا آخر، فليس لهذا الرجل المستعبد ولا لأي شخص غيره حق الاعتراض. إن استعباد الغير أمر يبدو هينا عند عضو الشيوخ دوجلاس. لقد سوته الطبيعة بحيث إن ضربة السوط إذا وقعت على ظهره تؤلمه، وإذا وقعت على ظهر غيره لن يحس لها ألما قط ... إن هذه السياسة التي يجرى عليها بإعلانه هذا المبدأ إنما هي عقبة دائمة في سبيل الوصول إلى حل لتلك المشكلة، وإني أعتقد ألا ضرر منها إذا كانت هي السياسة الدائمة للأمة كلها؛ لأنها في مثل تلك الحالة لا يكون وراءها تحيز أو غرض. ليس في الناس من لا يعنى بشيء، فما في الناس جميعا إلا من يعنى بهذا الجانب من المسألة أو ذاك. أما دوجلاس فإنه الرجل الوحيد في الأمة كلها الذي لم يقل ما إذا كان يعد الرق خطأ أم صوابا.»
وفيما هو ينافح عن حزبه ويجادل خصومه في مبادئه، إذ وقع في البلاد من الأحداث والنذر حادث جديد زاد هياجها، وكان كالزيت يلقى به على النار؛ وذلك هو حادث جون برون؛ فإن هذا الرجل - على كبر سنه - قد أعلن الثورة لتحرير الرقيق، ولقد كانت له قبل ذلك بثلاث سنوات حركة جريئة لنصرة قضيتهم في كنساس، ولقد عول اليوم على أن يذكي نار الثورة في البلاد؛ إذ لم يعد يطيق صبرا على هذا الوضع البغيض، وكان أهل الجنوب قد قتلوا ابنه من قبل وباتوا يتربصون به كذلك ليقتلوه.
خرج هذا الرجل في ثمانين لا أكثر من الرجال، منهم خمسة من الزنوج، وكان قلبه - على رغم شيخوخته - يفيض حماسة وقوة، فأعلن خطته في جرأة الأبطال واستهتارهم بالموت؛ ألا وهي حق كل زنجي في أن يثور على مالكه، فلم يعد أمام الزنوج إلا القوة.
ولكن جون لم يكد يخطو الخطوة الأولى في سبيل غايته، ويستولي على مركز أراد أن يجعله قاعدة لحركته؛ حتى أحيط به وغلب على أمره ثم حوكم وأعدم! ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس مطمئنة، ولما حانت منيته استنزل في ثبات وقوة لعنة الله على أعداء الحرية الظالمين، واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلا عند دعاة التحرير في الشمال، وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته، ويجعلونه رمزا لأحرار الشمائل ومثالا يجب أن يحتذيه كل من كان يخفق قلبه بحب الحرية.
Halaman tidak diketahui