عاد إلى أكسفورد التي تركها الصيف الحار باهتة ومستنفدة، لأجواء أعطته انطباعا بالقلق والاضطراب والتخوف. سار في الساحات الفارغة، التي أكسبت شمس الخريف الناعمة أحجارها لونا ذهبيا، ولا تزال حوائطها تلتمع ببقايا بهرجة ذروة الصيف، ولم يقابل أي وجوه يعرفها. صور له خياله المشوه الذي سيطر عليه الاكتئاب أن السكان السابقين قد أخلوا منها بطريقة غامضة، وأن من يجوبون الشوارع الرمادية ويجلسون مثل أشباح عائدة أسفل أشجار حدائق الكليات هم غرباء. كان الحديث الذي دار في غرفة كبار الأساتذة المشتركة مصطنعا وغير مترابط. شعر أن زملاءه يتحاشون النظر في عينيه. سأله أولئك الذين أدركوا أنه كان متغيبا عما حققه من نجاح في رحلته، لكن دونما اهتمام فعلي، مجرد لفتة لياقة. شعر أنه جلب معه عدوى خارجية مشينة. لقد عاد إلى مدينته، إلى مكانه الذي يألفه، ومع ذلك خيم عليه ذلك الشعور المقلق غير المألوف الذي لا يعرف له اسما سوى الوحدة.
بعد الأسبوع الأول، اتصل بهيلينا، مندهشا لرغبته في سماع صوتها، بل أمله في أن تدعوه للزيارة. إلا أنها لم تفعل. لم تحاول إخفاء خيبة أملها عندما جاءها صوته. كانت ماتيلدا تعاني ضعفا ولا تتناول طعامها. أجرى لها الطبيب البيطري بضعة فحوصات وكانت تنتظر أن يهاتفها.
قال: «لقد كنت خارج أكسفورد طوال الصيف. هل حدثت أي مستجدات؟» «ماذا تعني بالمستجدات؟ وأي نوع من المستجدات؟ لم يحدث أي جديد.» «لا أظن ذلك؛ فالمرء يعود بعد ستة أشهر متوقعا أن يجد الأمور قد تغيرت.» «لا شيء يتغير في أكسفورد. فلم قد يتغير أي شيء؟» «لم أكن أعني أكسفورد. بل البلد بأسره. لم تردني أخبار كثيرة عندما كنت في الخارج.» «لا يوجد أي أخبار. ولم تسألني أنا؟ حدثت مشكلة بشأن بعض المنشقين، هذا كل شيء. هي على الأرجح شائعة. يبدو أنهم كانوا يفجرون أرصفة بحرية، محاولين إيقاف فعاليات الراحة الأبدية. وذكر شيء عن ذلك في التلفاز منذ نحو شهر. ذكر المذيع أن جماعة منهم يخططون لتحرير جميع المساجين على جزيرة مان، وأنهم حتى قد يحاولون تنظيم غزو من الجزيرة لتنحية الحاكم.»
قال ثيو: «تلك حماقة.» «هذا ما يقوله روبرت. لكن لا ينبغي أن يذيعوا أمورا كتلك إن لم تكن حقيقية؛ فهي لا تتسبب إلا في إثارة قلق الناس. من قبل كان كل شيء هادئا.» «هل يعلمون هوية أولئك المنشقين؟» «لا أعتقد ذلك. لا أظن أنهم يعرفون هويتهم. ثيو، يجب أن أنهي المكالمة الآن؛ فأنا أنتظر مكالمة من الطبيب البيطري.»
دون أن تنتظر أن تسمع منه وداعا، وضعت سماعة الهاتف.
في الساعات الأولى من اليوم العاشر لعودته، عاد الكابوس. لكن هذه المرة لم يكن أبوه هو من يقف عند نهاية سريره ويشير بجدعته الدامية، بل كان لوك، ولم يكن هو مستلقيا في سريره، بل كان جالسا في سيارته، ليس أمام منزل شارع لاثبري، بل كان في صحن كنيسة بينسي. كانت نوافذ السيارة مغلقة، وكان يسمع امرأة تصرخ مثلما صرخت هيلينا. كان رولف موجودا، محتقن الوجه، وكان يضرب بقبضتيه زجاج السيارة ويصرخ قائلا: «لقد قتلت جوليان، لقد قتلت جوليان!» وأمام السيارة وقف لوك بصمت يشير إليه بجدعته الدامية. لم يستطع التحرك، وكان جامدا جمود الموتى. جاءته أصواتهم الغاضبة تقول: «اخرج! اخرج!» لكن جسده أبى أن يتحرك. جلس مكانه يحملق بعينين خاويتين خلال الزجاج الأمامي في إصبع لوك الذي يشير إليه باتهام، منتظرا أن يفتح الباب عنوة، وأن تجره أيديهم إلى الخارج كي يواجه هول ما ارتكبه هو وحده.
خلف الكابوس إرثا من القلق ظل يكبر يوما بعد يوم. حاول أن يتغلب عليه لكن لم يكن في حياته الوحيدة الرتيبة، التي يغلب عليها الروتين، أي شيء يقوى على أن يشغل أكثر من جانب واحد من ذهنه. قال في نفسه إنه يجب أن يتصرف على سجيته، وأن يظهر عدم الاهتمام، وأنه تحت مراقبة من نوع ما. لكن لم يكن ثمة ما يدل على ذلك؛ فلم يبلغه أي شيء من زان ولا المجلس، ولم يتلق أي اتصالات، ولم يلاحظ أن أحدا يتبعه. كان يخشى أن يتصل به جاسبر، كي يجدد عرضه بأن ينضم إليه في سكنه. لكن جاسبر لم يتواصل معه منذ الراحة الأبدية ولم تأته أي مكالمة منه. تابع ممارسة تمارينه البدنية المعتادة، وبعد عودته بأسبوعين انطلق يعدو في الصباح الباكر عبر بورت ميدو متجها إلى كنيسة بينسي. كان يعلم أنه ليس من الحكمة أن يزور الكنيسة ويسأل القس العجوز، وكان يجد صعوبة في أن يفسر لنفسه أهمية زيارة بينسي مرة أخرى، أو ما كان يرجوه من تلك الزيارة. بينما كان يعدو بخطواته الواسعة المنتظمة عبر بورت ميدو، خشي لوهلة أنه ربما يقود شرطة الأمن الوطني لأحد أماكن التقاء الجماعة. لكن عندما وصل إلى بينسي، وجد القرية الصغيرة مهجورة تماما، فقال لنفسه إنه من غير المحتمل أن يستمروا في اللقاء في أي من الأماكن التي كانوا يترددون عليها من قبل. لكن أينما كانوا، كان يعرف أنهم في خطر محدق. انتابته حينها، كما كان يحدث كل يوم، فيض من المشاعر المتضاربة المألوفة؛ ضيق من تورطه في الأمر، وندم على أنه لم يتدبر أمر مقابلته مع المجلس بطريقة أفضل، ورعب من أن تكون جوليان الآن بالفعل في قبضة شرطة الأمن الوطني، وخيبة أمل من عدم وجود طريقة للتواصل معها، ولا شخص بإمكانه أن يأمن الحديث إليه.
كان الممشى المؤدي لكنيسة سانت مارجريت قد صار مهملا أكثر، وكانت النباتات البرية قد غشيته أكثر من آخر مرة سار فيه، وجعلته الأغصان المتشابكة فوقه مظلما ومشئوما كأنه نفق. عندما وصل إلى باحة الكنيسة رأى سيارة جنازات مركونة خارج المنزل، ورجلين يحملان تابوتا بسيطا من خشب الصنوبر ويسيران في الممر.
سألهما: «هل مات القس العجوز؟»
بالكاد نظر إليه الرجل الذي رد عليه قائلا: «أحرى به أن يكون ميتا؛ فهو في التابوت.» أدخل التابوت بحرفية في مؤخرة السيارة، وأغلق الباب بقوة ثم انطلقا بالسيارة مبتعدين.
Halaman tidak diketahui