أطلق على الأطفال الذين ولدوا في العام 1995 اسم «الأوميجيين». لم يخضع أي جيل آخر لذلك الكم من الدراسات والاختبارات التي خضعوا لها ولا نال ذلك القدر من القلق والتقدير والتدليل الذي نالوه. كانوا رجاءنا وأملنا في الخلاص وكانوا، ولا يزالون، يتمتعون بجمال استثنائي. يبدو في بعض الأحيان وكأن الطبيعة في أوج غلظتها جعلتهم كذلك كي تجعلنا نتحسر على ما فقدناه. فالذكور، الذين بلغوا من العمر الخامسة والعشرين الآن، أشداء واستقلاليون وأذكياء ووسماء كآلهة يافعة. العديد منهم أيضا قاس ومتعجرف وعنيف، وثبت أن ذلك ينطبق على كل الأوميجيين في سائر العالم. يشاع أن عصابات «ذوي الوجوه المطلية» المخيفة التي تجوب الريف ليلا، لتنصب الكمائن للمسافرين غير الحذرين وترهبهم، هي من الأوميجيين. ويقال إنه عندما يلقى القبض على أحد الأوميجيين، تعرض عليه الحصانة إن كان مستعدا للانضمام إلى شرطة الأمن الوطني، بينما يلقى بباقي أفراد العصابة، المدانين بنفس تهمته، في المستعمرة العقابية على جزيرة مان، التي ينفى إليها حاليا كل أولئك المدانين بجرائم عنف أو سطو أو سرقة متكررة . ليس من الحكمة أن نقود سياراتنا دون حماية في الطرق الثانوية المتداعية، لكن بلداتنا ومدننا آمنة، وتكافح الجريمة فيها بفاعلية أخيرا بالعودة إلى تطبيق سياسة الترحيل التي كانت مطبقة في القرن التاسع عشر.
أما إناث الأوميجيين فيملكن جمالا من نوع مختلف، جمالا كلاسيكيا جافيا فاترا، يفتقر إلى الحيوية والروح. اتخذن لأنفسهن تصفيفة شعر مميزة لا تقلدها النساء الأخريات قط، ربما بدافع الخوف من التقليد. فهن يتركن شعورهن طويلة ومنسدلة، ويربطن شريطة مفرودة أو مجدولة حول جباههن. وهي تصفيفة لا تليق إلا بوجه ذي جمال كلاسيكي، له جبهة عالية وعينان واسعتان متباعدتان. وكشأن أقرانهن من الذكور، يبدو أنهن يفتقرن إلى القدرة على المشاركة الوجدانية البشرية. يعد الأوميجيون، رجالا ونساء، سلالة منفصلة، تدلل وتسترضى وتهاب، وينظر إليها برهبة تنطوي على بعض الإيمان بالخرافات. قيل لنا إنهم في بعض الدول يقدمون قرابين في طقوس الإخصاب التي عادت إلى الحياة بعد قرون من التحضر الظاهري. أتساءل أحيانا ماذا سنفعل هنا في أوروبا إن وردت إلينا أخبار بأن الآلهة القديمة قبلت تلك القرابين المحرقة وأن طفلا ولد حيا.
ربما نحن من جعلنا الأوميجيين على ما هم عليه بحماقتنا؛ فنظام يجمع بين المراقبة المستمرة والتدليل التام لا يصلح لتنشئة سوية. إن عاملت الأطفال كالآلهة منذ نعومة أظافرهم، فلا لوم عليهم إن تصرفوا كالشياطين عندما يكبرون. أحمل لهم ذكرى لا تزال حاضرة في ذهني بوضوح، وتظل رمزا حيا لنظرتي لهم، ونظرتهم لأنفسهم. حدث ذلك في يونيو الماضي، في يوم حار لكن حره لم يكن خانقا، وكان ضوء شمسه يسطع بوضوح وتزحف السحب ببطء مثل حفن من نسيج قطني رقيق عال في السماء اللازوردية، وهواؤه عليل تشعر ببرودته المعتدلة على وجنتيك، يوم لا يشبه مطلقا أيام صيف أكسفورد الرطبة البطيئة. كنت أزور زميلا أكاديميا في كلية كرايست تشرش وكنت قد دخلت تحت القوس المدبب العريض الذي يعلوه تمثال ولسي كي أعبر ساحة توم كواد عندما رأيتهم، مجموعة أوميجيين من أربعة ذكور وأربع إناث، واقفين يستعرضون أنفسهم بأناقة على قاعدة المبنى الحجرية. بدت النسوة بخصلات شعرهن المعقوصة اللامعة التي أحاطت بوجوههن مثل الهالة، وحواجبهن المرفوعة، والطيات والثنيات المتكلفة لأثوابهن الرقيقة، كما لو كن قد خرجن للتو من رسوم رسمها رسامو ما قبل الرفائيلية على زجاج نوافذ الكاتدرائية. ووراءهن وقف الذكور الأربعة مباعدين بين سيقانهم وعاقدين أذرعهم، موجهين أنظارهم ليس للنسوة بل لما وراء رءوسهن بتعال كما لو كانوا يؤكدون سيادتهم المطلقة على الساحة كلها. بينما كنت أمر، نظرت الإناث نحوي بعيونهن اللامبالية الخاوية من التعبير، التي حملت لمحة ازدراء واضحة. أما الذكور فتجهموا لبرهة ثم أشاحوا بأنظارهم كما لو أنها وقعت على شيء غير جدير بالملاحظة واستمروا في حملقتهم بالساحة. شعرت حينها، كما أشعر الآن، بسعادة بالغة لأني لم أعد مضطرا للتدريس لهم؛ فمعظم الأوميجيين اكتفوا بالحصول على درجة علمية أولى فقط، وليسوا مهتمين بإكمال مسيرتهم التعليمية. كان الطلاب الأوميجيون الذين درست لهم يتمتعون بالذكاء لكنهم كانوا مشاكسين وعديمي الانضباط وملولين. كنت سعيدا لأني لست مضطرا إلى إجابة سؤالهم الذي لم يتفوهوا به: «ما الفائدة من ذلك كله؟» فالتاريخ، الذي يفسر لنا ما حدث في الماضي كي نفهم حاضرنا ونواجه مستقبلنا، لجنس يسير في طريق الانقراض، هو أقل التخصصات نفعا.
زميل الجامعة الذي يتعامل مع أوميجا بهدوء تام هو دانيل هيرتسفيلد، لكن من الناحية الأخرى، باعتباره أستاذا لعلم الحفريات الإحصائي، ينظر عقله إلى الزمن من بعد آخر. كالرب في الترنيمة القديمة، كانت ألف سنة في نظره كليلة أمس التي انقضت. جلس إلى جواري في حفل بالكلية في السنة التي كنت فيها أمين سر مهرجان النبيذ، وقال لي: «ماذا ستقدم لنا بجانب الطيهوج يا فارون؟ هذا سيفي بالغرض تماما. يقلقني أنك أحيانا تميل قليلا إلى أن تكون مغامرا أكثر مما ينبغي. وأتمنى أن تكون قد وضعت برنامجا معقولا لاحتساء النبيذ. سيحزنني، وأنا على فراش الموت، أن أتذكر الأوميجيين الهمجيين وهم يستنفدون مخزون الكلية من النبيذ.»
قلت: «إننا نفكر في الأمر. ما زلنا ننوي اختزان النبيذ بالطبع، لكن على نطاق أضيق . يشعر بعض زملائي أننا نبالغ في التشاؤم.» «لا أعتقد أن المرء يمكنه أن يبالغ في التشاؤم. لا أرى سبب اندهاشكم البالغ جميعا من أوميجا. ففي النهاية، من ضمن أربعة مليارات شكل من أشكال الحياة التي وجدت على هذا الكوكب، انقرض ثلاثة مليارات وتسعمائة وستين مليونا. ولا نعلم السبب. بعضها انقرض انقراضا جائرا، والبعض الآخر بسبب كوارث طبيعية. بعضها قضت عليه الكويكبات والنيازك. في ضوء هذه الانقراضات الجماعية، يبدو من غير المنطقي حقا أن نعتبر أن جنس «الإنسان العاقل» معفيا من ذلك. سيكون جنسنا أحد أقصر الأجناس جميعها عمرا، فيمكنك القول إنه يمثل مجرد طرفة عين للزمن. وبصرف النظر عن أوميجا، ربما كان كويكب ذو حجم كاف لتدمير هذا الكوكب في طريقه إلينا الآن.»
ثم بدأ يلوك قضمات من طيهوجه بصوت عال كما لو أن ذلك الاحتمال قد منحه بهجة عارمة.
الفصل الثاني
الثلاثاء 5 يناير 2021
خلال السنتين اللتين كنت أحضر فيهما اجتماعات المجلس بدعوة من زان بصفتي مستشارا مراقبا، اعتاد الصحفيون أن يكتبوا أننا تربينا معا، وأننا بمثابة أخوين. لكن هذا لم يكن صحيحا. فمنذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري، كنا نقضي عطلات الصيف معا لا أكثر. لم يكن ذلك الخطأ مفاجئا. فقد كدت أنا نفسي أصدقه. فحتى الآن، عندما أنظر إلى الماضي يبدو لي الفصل الدراسي الصيفي كسلسلة متعاقبة مملة من الأيام الرتيبة، التي تغلب عليها جداول مواعيد الحصص، ولم تكن مؤلمة ولا كنت أهابها، لكن كان علي أن أتحملها حتى تأتي لحظة الخلاص، وفي بعض الأحيان القليلة استمتعت بها لفترة وجيزة، فقد كنت تلميذا نبيها ومحبوبا نوعا ما. وبعد أن أقضي بضعة أيام في المنزل، كانت والدتي ترسلني إلى وولكوم.
حتى وأنا أكتب الآن، ما زلت أحاول أن أفهم طبيعة مشاعري تجاه زان حينها، ولم ظل الرابط بيننا قويا ولم دام لتلك الفترة الطويلة. لم تكن مشاعري ذات طبيعة جنسية، مع أنه تقريبا في معظم الصداقات الوطيدة يكون ثمة بذرة خفية لانجذاب جنسي. وحسبما أذكر، لم نتلامس قط، حتى من باب اللعب الغليظ. فلم يكن ثمة لعب غليظ؛ فقد كان زان يكره أن يلمسه أحد، وكنت أنا قد أدركت مبكرا حدوده التي يجب ألا أتعداها واحترمتها كما كان هو أيضا يحترم حدودي. ولم تكن أيضا قصة الرفيق المسيطر المعهودة، قصة الرفيق الأكبر عمرا يقود تابعه المعجب به الأصغر منه، وإن كان يكبره بأربعة أشهر فقط، فلم يشعرني قط بأنني أدنى منه؛ فلم يكن ذلك أسلوبه. كان يرحب بي دون مودة خاصة ولكن كما لو كان يستقبل توأمه، أو بضعة منه. كان يحظى بجاذبية بالطبع ولا يزال. عادة تكون الجاذبية صفة مبغوضة لكني لم أعرف قط سببا لذلك. فلا يمكن أن يحظى بها من لا يملك القدرة على الإعجاب بالآخرين بصدق، على الأقل في لحظة لقائهم والتحدث معهم. الجاذبية صفة صادقة دائما؛ فقد تكون سطحية لكنها ليست مصطنعة. عندما يكون زان برفقة شخص ما، فإنه يعطيه انطباعا بالحميمية والاهتمام، ويشعره بأنه لا يحتاج إلى رفقة أي شخص سواه. مع أنه قد يستقبل نبأ وفاة ذلك الشخص في اليوم التالي دون أي تأثر، بل قد يقتله بنفسه حتى دون وخز ضمير. الآن أشاهده على التلفاز وهو يقدم تقريره ربع السنوي للأمة فألحظ نفس الجاذبية.
Halaman tidak diketahui