آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي
آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي
Penerbit
دار الغرب الإسلامي.
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٩٩٧
Genre-genre
ـ[" آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي ".]ـ
المؤلف: محمّد بن بشير بن عمر الإبراهيمي (المتوفى: ١٣٨٥هـ)
جمع وتقديم: نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
الناشر: دار الغرب الإسلامي.
الطبعة: الأولى ١٩٩٧
عدد الأجزاء: ٥
أعده للشاملة/ أبو ياسر الجزائري
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
ملاحظات:
- الصفحة ٣٢ - ٣٣ من الجزء الأول ناقصتان من الكتاب المصور،
- الصفحة ٣٢٧ من الجزء الرابع بها بياض، أدخلت النص الساقط منها
Halaman tidak diketahui
ـ[آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي]ـ
جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
الجزء الأول
١٩٢٩ - ١٩٤٠
الناشر: دار الغرب الإسلامي.
ــ
1 / 1
١٩٧٧ - دار الغرب الإسلامي
الطبعة الأولى
1 / 2
آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي
1 / 3
ـ[صورة الشيخ البشير الإبراهيمي]ـ
تلمسان ١٩٣٧
ــ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
ــ
منذ وفاة والدي الشيخ محمد البشير طالب الإبراهيمي- ﵀ في ٢٠ مايو ١٩٦٥، لم تفارقني ذكراه في حلي وترحالي، وفي يقظتي ومنامي، وذلك لأن العلاقة بيننا لم تكن تلك العلاقة التقليدية بين الابن وأبيه، أو بين التلميذ وأستاذه، بل كانت أقوى من ذلك بكثير، فقد كان بالنسبة لي أبا وأستاذا وصديقا ورائدا ومثلا أعلى أقتدي به، وأستنير برأيه في كل خطواتي، ولذلك فإن صدمتي بفقده جعلتني لا أستطيع الكتابة عنه طوال ثلاثين سنة، باستثناء المقدمة التي كتبتها للطبعة الثانية لـ "عيون البصائر"، بإلحاح شديد من شاعر الجزائر الكبير المرحوم محمد العيد آل خليفة (١).
وكنت طوال هذه المدة أستلهم كل أعمالي وأقوالي من تربيته وتوجيهاته، وأحاول في كل المسؤوليات التي تقلدتها أن أنهج نهجه، وأنسج على منواله في حبه للجزائر، والإسلام، والعربية. وفي تفانيه للدفاع عنها بكل ما أوتي من قوة حتى آخر رمق من حياته، وكنت أشعر وكأنه- ﵀ من وراء حجب الغيب يوجه خطاي للعمل الدؤوب في خدمة البلاد والعباد، وفي إرساء المبادئ السامية التي كافح من أجلها لتعيش الجزائر حرة عزيزة كريمة في كنف العدالة الاجتماعية.
وإني وإن كنت لم أستطع الكتابة عنه طيلة هذه السنوات، فإني عملت على جمع آثاره في طبعة أولى (٢)، بدأت تظهر منذ السبعينات في أربعة أجزاء، بالإضافة إلى الجزء الذي
_________
١) آثار الإمام الإبراهيمي، ج ٣، ﷺ ٣٥.
٢) بمساعدة الأستاذين حمزة بوكوشة- ﵀ ومحمد خمار. وقد صدر الجزء الأول سنة ١٩٧٨، والجزء الثالث سنة ١٩٨١، والجزء الرابع سنة ١٩٨٥، والجزء الخامس "في قلب المعركة" سنة ١٩٩٤، و"عيون البصائر" تمثل الجزء الثاني من هذه الطبعة الأولى.
1 / 5
طبع في حياته تحت عنوان "عيون البصائر". وها أنا اليوم- بعد ابتعادي عن المسؤوليات- أقدم للقراء طبعة جديدة من آثار الوالد بعد سنتين من البحث والتنقيب عما تركه من كتابات مخطوطة أو مطبوعة كانت متناثرة هنا وهناك.
ولئن كانت هذه الآثار المطبوعة ضئيلة في حجمها بالنسبة إلى حياة الشيخ الحافلة، فإن كثيرا ضاع، وكثيرا مما ألقاه من دروس وخطب ومحاضرات لم يسجل لأنه كان يلقيه ارتجالا، ولم تتسن كتابة إلا أقل القليل منه، وكانت له مؤلفات وكتابات مخطوطة حول العديد من المواضيع في الدين واللغة والأدب والاجتماع ضاعت إبان حرب التحرير، إما عند بعض تلامذته أو في بيته بالجزائر العاصمة حين اقتحمه الجيش الفرنسي سنة ١٩٥٧ - وهو بالمشرق العربي- وعاث في مكتبته تخريبا ونهبا، ففقدت مخطوطاته ومعظم كتبه.
وبالرغم مما للوالد من أبحاث ومقالات فإنه يعد من ذلك الرعيل من المفكرين الذين شغلتهم الاهتمامات القومية ومسؤولياتهم في الحركة الإصلاحية عن الإنتاج المكتوب، وهو في ذلك كالشيخ سالم بوحاجب بتونس، والشيخ محمد بن العربي العلوي بالمغرب الأقصى، وقبلهما حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، فهؤلاء قضوا حياتهم في تكوين الرجال لا في تأليف الكتب، ولقد كان البشير الإبراهيمي يقدم الأهم على المهم إذ نذر حياته للإصلاح الديني والاجتماعي وتكوين الرجال القادرين على حماية إسلام الجزائر وعروبتها. وقد أكد ذلك في آخر حياته بقوله: "لم يتسع وقتي للتأليف والكتابة مع هذه الجهود التي تأكل الأعمار أكلا، ولكنني أتسلى بأنني ألفت للشعب رجالا، وعملت لتحرير عقوله تمهيدا لتحرير أجساده، وصححت له دينه ولغته، فأصبح مسلما عربيا، وصححت له موازين إدراكه، فأصبح إنسانا أبيا، وحسبي هذا مقربا من رضى الرب ورضى الشعب " (٣).
وكانت صورة الأمير عبد القادر الجزائري ماثلة أمامه دائما، لأن عبد القادر كالإبراهيمي كان لا يفصل بين العلم والعمل، ولا يفرق بين النضال والتفكير.
...
هذه الآثار وتاريخ الجزائر:
إن الحديث عن الإبراهيمي هو حديث عن الجزائر: أصالة وحضارة وصمودا ونهضة وتحررا، فقد جسد الجزائر في شخصيته: نشأة وتكوينا وإشعاعا وقولا وكتابة وسلوكا.
إن آثاره التي توزعت حياته بمختلف مراحلها حافلة بما أثمره جهاده الطويل من جلائل الأعمال، فقد جسدت بصدق وأمانة حياة الجزائر خلال حقبة كاملة من تاريخها الحديث.
_________
٣) آثار الإمام الإبراهيمي، ج ٥، ﷺ ٢٨٨.
1 / 6
وهناك حقيقة لا بد من تأكيدها هنا، وهي أن مفتاح الدخول إلى هذه الآثار وفهمها حق الفهم لمعرفة الإبراهيمي حق المعرفة، ولتقديره بما هو جدير به، ليس الإطلاع على حياته فحسب، بل ضرورة الإطلاع على هذه الحقبة التاريخية المتميزة في حياة الجزائر والوقوف على مختلف أبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وفهم تطور الوعي في المجتمع الجزائري الذي تطورت معه أساليب المقاومة والجهاد من أجل التحرير والاستقلال لأن الذي لا يفهم طبيعة هذه المرحلة فهما دقيقا لا يستطيع أن يفهم رسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أو يدرك أهدافها البعيدة التي رسمتها وجاهدت من أجل تحقيقها، هذه الجمعية التي نشط فيها الإبراهيمي مع غيره من إخوانه العلماء، فكان نائبا لرئيسها الأول الإمام عبد الحميد بن باديس في حياته، ثم رئيسا لها بعد وفاته.
وإذا استعرضنا العوامل الحاسمة في نهوض المجتمع الجزائري في العصر الحديث دينيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا، نجمل ذلك في حركتين بارزتين ومتكاملتين:
١ - الحركة العلمية الإصلاحية الدينية التي انطلقت بوادرها مع بداية القرن العشرين، ثم تطورت بقيام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالتدريس في قسنطينة، غداة تخرجه من الجامعة الزيتونية سنة ١٩١٣، ونضجت هذه اليقظة مع عودة بعض العلماء من مهجرهم بالشرق العربي إلى الوطن، أمثال أبي يعلى الزواوي، والطيب العقبي، والبشير الإبراهيمي، ثم تبلورت في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام ١٩٣١، غداة احتفال فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر، اعتقادا منها أنها قضت على الشخصية الجزائرية نهائيا بقضائها على الإسلام والعروبة فيها، ومما قاله أحد الحكام الفرنسيين في الجزائر بهذه المناسبة: "إِنَّنَا لَنْ نَنْتَصَرَ عَلَى الْجَزَائِرِيِّينَ مَا دَامُوا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَكَلَّمُونَ الْعَرَبِيَّةَ، فَيَجِبُ أَنْ نُزِيلَ الْقُرْآنَ مِنْ وُجُودِهِمْ، وَأَنْ نَقْتَلِعَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ".
٢ - الحركة السياسية ممثلة في تأسيس حركة "نجم شمال إفريقيا" في باريس من العمال المهاجرين لكل من تونس والجزائر والمغرب عام ١٩٢٧ وما تلاها كتأسيس "حزب الشعب الجزائري " عام ١٩٣٧، ثم "حركة الانتصار للحريات الديمقراطية" عام ١٩٤٦، وما تولد عنها من منظمات سرية وعلنية تألقت بمواقف وتضحيات بطولية مشهودة، وأخيرا كل ما عزز الكفاح الوطني من حركات سياسية وثقافية كـ "أحباب البيان والحرية" و"الكشافة الإسلامية الجزائرية ".
وإذا كانت الحركات السياسية اعتمدت- بحكم طبيعتها- الكفاح السياسي لبلوغ غايتها، وتجنيد فئات الشعب حول برامجها، فإن الحركة الدينية التي تمثلها "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين " مهدت السبيل باعتماد أسلوب الإصلاح الديني والاجتماعي الذي هيأ الأنفس
1 / 7
للإنصهار في الحركة السياسية، عن طريق التربية والتعليم والتكوين، وبناء المساجد، والنوادي، والمدارس، وإحياء المقومات الذاتية للشخصية الجزائرية، وربط الجزائر بمحيطها العربي الإسلامي الذي أراد الاستعمار انتزاعها منه، وبهذه العناصر تكون الوحدة الوطنية مصونة راسخة، ويكون الجهاد واجبا قائما، فيكون- بإذن الله- الانتصار المبين ميسورا مضمونا.
ولا شك أن إصلاح العقيدة هو أساس كل إصلاح، فقد قال الإمام مالك ﵁: «لَا يَصْلُحُ آَخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَا بِمَا صَلُحَ بِهِ أَوَّلُهَا»، وهو الشعار الذي رفعه المصلحون في الجزائر وجسدوه في أقوالهم وأفعالهم، وكتاباتهم، فها هو الشيخ مبارك الميلي- مؤرخ الجزائر وأحد علمائنا- يكتب في العشرينات في أحد أعداد جريدة "المنتقد"، "من حاول إصلاح أمة إسلامية بغير دينها، فقد عرض وحدتها للانحلال وجسمها للتلاشي، وصار هادما لعرشها بنية تشييده".
إن الحركة الدينية التي قادها علماؤنا الأجلاء تعدى صداها حدود الوطن، وكانت ثورة ثقافية حقيقية- بمفهوم اليوم- قلبت أوضاع الشعب الجزائري، وجعلته يعيش في حالة تناقض دائمة مع الاستعمار، ويتفاعل مع قضايا أشقائه في المغرب الأقصى وتونس والمشرق العربي، وكانت حربا بدون هوادة على الجهل والتحجر والبدع والخرافات والخمول والاستكانة. لقد أدخلت تلك الثورة الثقافية على المجتمع الجزائري تحولات في مفاهيمه، إذ أيقظت فيه روح الأخوة والتضامن، وبعثت فيه الأمل الذي هو مفتاح الوصول إلى الغاية المنشودة، وأعدت لذلك الوسائل الملائمة التي رسمت الطريق إلى شاطئ الخلاص وبر الأمان.
وهذه الحقيقة تؤكد الاتفاق الكلي بين الحركة الدينية والحركة السياسية في الغاية، أي العمل على تمكين الجزائر من استرجاع سيادتها واستقلالها وحريتها، وإذا كان هناك من فرق بين الحركتين فمن المؤكد أنه ليس في الهدف- إذ الهدف واحد وهو الانعتاق- وإنما في الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق ذلك الهدف.
تبنت "جمعية العلماء"، مشروعا يقوم على الدين والعلم والأخلاق، إيمانا منها أن هذه العناصر الثلاثة توصل الشعب الجزائري إلى الاستقلال، بينما جعلت الحركة السياسية من الاستقلال الوسيلة إلى بناء هذه الأعمدة الثلاثة، وإن كان أحيانا بمسميات مختلفة، بيد أنها تصب دائما في نفس الاتجاه ... وقد شاهدتُ في طفولتي بمدينة تلمسان في الثلاثينات كثيرا من تلامذة والدي وأنصاره يلازمونه في دروسه وخارج دروسه كمريدين أو أكثر، وهم في نفس الوقت منخرطون في حركة "حزب الشعب الجزائري"، ولم يكن لديهم أي شعور بالتناقض في الانتماءين، خلافا لما ركز عليه لاحقا بعض المؤرخين الفرنسيين في كتاباتهم، ممن كان همهم الأكبر التنقيص من دور الإسلام في الحركة الوطنية ثم في الثورة المسلحة ...
1 / 8
وإذا كان هذا النوع من التجني على الحقيقة بالإصرار على زرع التناقض بين الحركة الدينية والحركة السياسية في تاريخ الجزائر المعاصر أمرا متوقعا من هؤلاء المؤرخين، لأن صراعنا معهم صراع حضاري متواصل عبر التاريخ بأشكال شتى منذ أشرق نور الإسلام على هذه الربوع، فإن المرء ليندهش حين يسمع من يردد تلك المقولات المغرضة من أبناء وطنه، أو في بعض الدوائر العربية، ممن يبحثون في بعض صفحات التاريخ عن حجج معينة لتبرير موقف سياسي آني يتعارض مع انتماء الشعب الجزائري وأصالته، أو طمعا في الحصول على "شهادة حسن السيرة" من الغرب، قصد توظيفها لغايات معينة لا علاقة لها إطلاقا بما ينبغي أن يتحلى به المؤرخ المنصف من أمانة وتجرد وموضوعية ونزاهة فكرية ... وقد نلمس لهؤلاء عذرا إذا كان هذا الموقف "الاتباعي" نابعا عن جهل، فقد قال الإمام علي- كرم الله وجهه-: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا وَأَحِبَّاءُ مَا أَلِفُوا».
هذه الآثار وحياة الإبراهيمي:
إذا استعرضنا حياة الإبراهيمي نجدها تنقسم إلى سبعة أقسام:
١ - مرحلة التكوين والتحصيل الأولى (١٨٨٩ - ١٩١١):
ولد بقرية "رأس الوادي " بناحية مدينة سطيف بالشرق الجزائري في ١٤ يونيو عام ١٨٨٩، وفي بيت أسس على التقوى، من بيوتات العلم والدين، وقد أتم حفظ القرآن الكريم على يد عمه الشيخ المكي الإبراهيمي الذي اكتشف مواهبه المبكرة، وكان لها الفضل الأكبر في تربيته وتكوينه، حتى جعل منه ساعده الأيمن في تعليم الطلبة. من هذه المرحلة المبكرة من حياة الشيخ الإبراهيمي لم نعثر على آثار تذكر باستثناء بعض الرسائل الإخوانية (٤) وتجدر الإشارة إلى أن الإستعمار الفرنسي في الجزائر كان ينتهج سياسة التجهيل والتفقير والطمس لمقومات الأمة وثوابتها، وذلك في كل أرجاء الوطن.
٢ - الرحلة المشرقية الأولى (١٩١١ - ١٩٢٠):
هاجر جدي، الشيخ السعدي الإبراهيمي إلى المدينة المنورة عام ١٩٠٨، هروبا من ويلات الاستعمار الفرنسي، ولحق به والدي عام ١٩١١، تأكيدا للتفاعل بين المشرق والمغرب، مرورا بمصر التي أقام بها ثلاثة أشهر، التقى خلالها بعدد من علمائها وأدبائها وشعرائها، وحضر بعض دروس العلم في الأزهر، وعندما استقر بالمدينة المنورة، درس فيها على كبار علمائها- الوافدين من كل أنحاء العالم الإسلامي- علوم التفسير
_________
٤) نشرت مجلة "الموافقات" في عددها ٤، السنة ٤ (يوليو ١٩٩٥) [ص: ٧٦٢]، إحدى هذه الرسائل.
1 / 9
والحديث، والفقه، والتراجم، وأنساب العرب، وأدبهم، ودواوينهم، كما درس علم المنطق والحكمة المشرقية، وأمهات كتب اللغة والأدب، ثم أصبح يلقي الدروس للطلبة في الحرم النبوي، ويقضي أوقات فراغه في المكتبات العامة والخاصة باحثا عن المخطوطات.
والتقى خلال إقامته بالمدينة المنورة، في موسم الحج عام ١٩١٣، بالإمام عبد الحميد ابن باديس، وما من شك في أن تلك اللقاءات شهدت ميلاد فكرة تأسيس جمعية العلماء.
وفي سنة ١٩١٧، انتقل الإبراهيمي إلى دمشق، حيث دعته حكومتها لتدريس الآداب العربية بالمدرسة السلطانية (مكتب عنبر)، وهي المدرسة العصرية الوحيدة آنذاك، بالإضافة إلى إلقاء دروس في الوعظ والإرشاد في الجامع الأموي، وقد تخرج على يديه جيل من المثقفين كان لهم أثر بالغ في النهضة العربية الحديثة.
من الأماكن التي كانت لها مكانة خاصة في قلب الوالد- بعد مسقط رأسه- المدينة المنورة، وكان- ﵀ يحثني- بعد الاستقرار- على قضاء شهر رمضان بالمدينة، لما للمكان من بعد روحي، ولسكانها من خلق وطيبة، ومدينة دمشق التي تزوج فيها بوالدتي رفيقة العمر- رحمها الله رحمة واسعة-، ودفن فيها والده وحماه وابنه.
ومن هذه المرحلة لم نعثر على آثار مكتوبة للإبراهيمي، بالرغم مما كان له من نشاط علمي وثقافي تشهد عليه شخصيات كثيرة مثل الدكتور عبد الرحمن شهبندر في رسالة باسم "النادي العربي" تتضمن دعوة الإبراهيمي لإلقاء محاضرة فيه سنة ١٩١٩، وشهادة الدكتور جميل صليبا عن أستاذه (٥)، ومن نشاط سياسي مؤيد لفكرة الجامعة الإسلامية.
٣ - مرحلة الإرهاصات (١٩٢٠ - ١٩٣١):
قرر الإبراهيمي العودة إلى الجزائر سنة ١٩٢٠، وفي مخيلته فكرة حركة تحيي الإسلام والعربية في الوطن وتنشر العلم، وتبعث الأمة، وأعجب بعد وصوله بالنتائج المثمرة التي حققها ابن باديس الذي كان يقود حركة ثقافية وصحفية بمدينة قسنطينة، فأقام بمدينة سطيف وأنشأ بها مدرسة ومسجدا بعد أن رفض الوظيفة التي عرضت عليه من طرف السلطات الفرنسية، وتعاطى التجارة ليقوم بأوَد عائلته، وبقي على اتصال بابن باديس. وخلال هذه المرحلة تردد على مدينة تونس حيث كان يقيم أصهاره، وحيث كانت له صداقات في الأوساط العلمية والأدبية.
_________
٥) مجلة " الثقافة " الجزائرية، عدد ٨٧، مايو ١٩٨٥، [ص: ٥٥].
1 / 10
من هذه المرحلة لم نعثر إلا على بعض الرسائل (٦)، وبعض المقالات والمحاضرات التي نشرت في مجلة "الشهاب" ابتداء من عام ١٩٢٩، والتي نفتتح بها الجزء الأول من هذه الآثار.
٤ - بدايات جمعية العلماء (١٩٣١ - ١٩٤٠):
في عام ١٩٣١ تأسست "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"، كرد فعل إيجابي على احتفال فرنسا بمرور قرن على احتلال الجزائر، بعدما أيقنت أن الجزائر قد أصبحت إلى الأبد قطعة منها، مسيحية الدين، فرنسية اللسان، فجاء شعار الجمعية صارخا مدويا في وجه فرنسا، وراسما طريق الخلاص منها: "الْإِسْلَامُ دِينُنَا، وَالْعَرَبِيَّةُ لُغَتُنَا، وَالْجَزَائِرُ وَطَنُنَا".
ووضع الإبراهيمي دستور الجمعية وقانونها الأساسي، وأصبح نائبا لرئيسها الإمام ابن باديس، ومنذ عام ١٩٣٣ تكفل بالمقاطعة الغربية من القطر، واختار مدينة تلمسان مركزا لنشاطه المكثف، وأسس فيها "مدرسة دار الحديث" سنة ١٩٣٧، بنيت على نسق هندسي أندلسي أصيل، فكانت مركز إشعاع ديني وعلمي وثقافي، واحتوت على مدرسة ومسجد وقاعة محاضرات.
إن الجزء الأول من آثار الإبراهيمي يشتمل على ما عثرنا عليه خلال هذه المرحلة من حياته، وهي أدق حقبة في تاريخ الجزائر الحديث، نظرا لما شهدته من أحداث كان لها شأن كبير في تشكل الوعي الديني والسياسي للمجتمع الجزائري.
٥ - قيادة الحركة الدينية والثقافية بالجزائر (١٩٤٠ - ١٩٥٢):
بعد أن رفض الإبراهيمي رفضا قاطعا كل محاولات فرنسا لإغرائه واحتوائه، أو تثبيط عزيمته، قررت السلطات الاستعمارية نفيه إلى قرية آفلو في الجنوب الغربي من الوطن، في مطلع الحرب العالمية الثانية.
وبعد أسبوع من نفيه تلقى خبر وفاة رفيقه الإمام عبد الحميد بن باديس- ﵀، وخبر اجتماع أعضاء الجمعية وانتخابهم له رئيسا رغم الضغوط الفرنسية الرامية إلى انتخاب غيره، فتحمل مسؤولية قيادة الجمعية غيابيا، وتولى إدارتها بالمراسلة طول الأعوام الثلاثة التي قضاها في المنفى، وبعد إطلاق سراحه عام ١٩٤٣، أصبح قائدا للحركة الدينية والعلمية والثقافية في الجزائر، يجوب ربوعها معلما وموجها ومرشدا، يوحد الصفوف ويؤسس المدارس والمساجد والنوادي ويهيئ العقول لساعة الصفر التي كانت تخطط لها نخبة من الحركة السياسية.
_________
٦) نشرت إحدى هذه الرسائل في كتاب "دعائم النهضة الوطنية الجزائرية" لمحمد الطاهر فضلاء، [ص: ٤٣].
1 / 11
وقد زُجَّ به في السجن بعد أحداث مايو ١٩٤٥، وبقي فيه عاما كاملا ذاق الأمرين في زنزانة تحت الأرض حيث الظلمة والرطوبة، مما استدعى نقله إلى المستشفى العسكري بقسنطينة، فتحمل هذه المحنة بصبر المجاهد، ويقين المؤمن.
وفي سنة ١٩٤٦ استأنف نشاطه، فبعث جريدة " البصائر" من جديد في السنة الموالية بعد أن توقفت أثناء الحرب، وأشرف على تحريرها، كما أسس معهدا ثانويا أطلق عليه اسم رفيقه وصديقه المرحوم عبد الحميد ابن باديس في قسنطينة، حظيت شهادته بالاعتراف من الجامعة الزيتونية ومن معاهد الشرق العربي، ومن هذا المعهد تخرج رجال قادوا الثورة المسلحة، فمنهم من استشهد في الجهاد الأصغر، ومنهم من ساهم غداة الاستقلال في إعادة بناء هذا الوطن، كقياديين أو إطارات سامية في الدولة، فكان منهم الوزير والسفير، والوالي والمحافظ والقائد العسكري والأستاذ ومدير الجامعة الخ ...
ويحتوي الجزءان الثاني والثالث من آثار الإبراهيمي على ما أنتجه خلال هذه الفترة التي هي أخصب مراحل حياته، ابتداء بما أوحت به قرية آفلو، التي لم نعثر- مع الأسف- إلا على القليل من المقامات والروايات والرسائل التي كتبت فيها، إلى ما كتبه أسبوعيا في جريدة "البصائر".
أما مقالاته الافتتاحية فقد قام هو نفسه بجمعها لتطبع في كتاب سماه "عيون البصائر"، وهو يشكل الجزء الثالث من هذه الطبعة الجديدة.
٦ - الرحلة المشرقية الثانية (١٩٥٢ - ١٩٦٢):
سافر الإبراهيمي إلى المشرق العربي للمرة الثانية عام ١٩٥٢ ممثلا لجمعية العلماء ليسعى لدى الحكومات العربية لقبول بعثات طلابية جزائرية في معاهدها وجامعاتها، وطلب الإعانة المادية والمعنوية للجمعية حتى تستطيع مواصلة أعمالها وجهادها، والتعريف بالقضية الجزائرية في الأوساط السياسية في الدول التي زارها أو التقى مسؤوليها، ولدى جامعة الدول العربية.
وقد اتخذ من مصر منطلقا لنشاطه، ورعى فيها أولى البعثات الطلابية، وكان سفيرا للجزائر وصوتها المدوي، يلقي المحاضرات والدروس- خاصة في مركزي الإخوان المسلمين والشبان المسلمين- والأحاديث الإذاعية قبل الثورة التحريرية وفي أثنائها. وقد زار في هذا الشأن- بعد مصر- كلا من المملكة العربية السعودية، والعراق، وسوريا، والأردن، والكويت، وباكستان.
ووجه يوم ١٥ نوفمبر ١٩٥٤ - أي بعد أسبوعين من اندلاع الثورة- نداء إلى الشعب الجزائري، يدعوه فيه إلى الالتفاف حول الثورة المسلحة، وخوض غمار الجهاد المقدس،
1 / 12
والتضحية بالنفس والنفيس، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لحياة العزة والكرامة، وكان هذا النداء إسكاتا لكل من يريد التشكيك في شرعية الجهاد باسم الدين، ودفعا قويا للثورة الوليدة.
ويشتمل الجزء الرابع على ما استطعنا جمعه من آثار الإبراهيمي، خلال القسم الأول من رحلته المشرقية الثانية (١٩٥٢ - ١٩٥٤)، أي قبل اندلاع ثورة التحرير، ويعكس نشاطه الحثيث في التعريف بواقع الجزائر وقضيتها. أما الجزء الخامس والأخير من آثار الإبراهيمي فيغطي الثورة التحريرية (١٩٥٤ - ١٩٦٢)، ويشتمل على ما جمعنا من مواقفه المعلنة والمنشورة عن ثورة الجزائر.
٧ - المرحلة الأخيرة (١٩٦٢ - ١٩٦٥):
وهي التي عاد الإبراهيمي فيها إلى وطنه بعد استعادة الاستقلال حتى وفاته في ٢٠ مايو١٩٦٥. وخلال هذه المرحلة اضطر إلى التقليل من نشاطه بسبب تدهور صحته من جهة، وبسبب سياسة الدولة التي شعر أنها زاغت عن الاتجاه الإسلامي، فانحصر نشاطه في حدثين ختمنا بهما الجزء الخامس من آثاره:
- إلقاء أول خطبة جمعة بعد استعادة الاستقلال، افتتح بها مسجد "كتشاوة" بالعاصمة، الذي رجع كما كان مسجدا بعد أن حوله الاستعمار الفرنسي إلى كتدرائية طوال قرن وثلث، وقد ألقى الإبراهيمي هذه الخطبة المشهودة بحضور وفود من جميع الدول العربية والإسلامية.
- إصدار بيان ١٦ أفريل ١٩٦٤، الذي دعا فيه السلطة آنذاك للعودة إلى الحكمة والصواب، وإلى جادة الإسلام، بعد أن رأى البلاد تنحدر نحو الحرب الأهلية، وتنتهج نهجا ينبع من مذاهب دخيلة مضادة لعقيدتنا وروحنا وجذورنا.
مشروع الإبراهيمي النهضوي:
يُجمع تلامذة الإبراهيمي ورفقاؤه أن أهم ما كتب هو "عيون البصائر" أي الجزء الثالث من هذه الآثار، بما فيها من جهاد في سبيل الإسلام والعروبة في جزائر محتلة، وبما فيها من مقارعة الاستعمار على الصعيدين الديني والسياسي، وبما فيها من مناصرة لكل قضايا المسلمين مشرقا ومغربا، وخاصة قضية فلسطين، وبما فيها من روائع البيان العربي كسجع الكهان.
ولكنني أرى أن محتويات الجزء الأول من هذه الآثار- وهي تمثل ما عثرنا عليه من آثار الإبراهيمي في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات- لا تقل أهمية عن "عيون البصائر"، إذ تتجلى لقارئها معالم مشروع نهضوي تستحق التأمل:
1 / 13
في سنة ١٩٢٠ - بعد الرحلة المشرقية الأولى التي دامت قرابة عشر سنوات، والتي أقام فيها بالمدينة المنورة ودمشق وزار القاهرة في مستهلها، وتونس في ختامها- عاد الإبراهيمي إلى وطنه، ووجده- كما تركه- يئن تحت وطأة الاستعمار والجهل والفقر والتخلف، وفي ذهنه مشروع نهضوي يدخل الأمة الإسلامية في دائرة التقدم والتحديث، وينطلق من الإسلام، لأن الإبراهيمي الذي تأثر بأفكار الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا مقتنع أن في الإسلام علاجا لكل أمراض المجتمع، شريطة أن تستعمل الأسلحة الثلاثة في المعركة: العقل والعلم والعدل.
وقبل أن تستوفى الشروط لقيام حركة تشمل القطر، استقر بمدينة سطيف، وبدأ يطبق مشروعه بإنشاء مدرسة ومسجد، وحافظ على استقلاله بممارسة التجارة ورفض الوظيف، هذا على الصعيد العملي، أما على الصعيد النظري فألقى- سنة ١٩٢٩ - محاضرة بعاصمة الجزائر تحت عنوان: "التعاون الاجتماعي" (٧)، حدد فيها معالم مشروعه النهضوي في إطار النسق الإسلامي والذي يقوم على أعمدة أربعة: الدين والعلم والأخلاق والإقتصاد
- الدين: " ... إنه دين الفطرة، ولا يرجع في أحكامه إلا إلى النص القطعي من كتاب محكم أو سنة قولية أو عملية متواترة، وأن كل ما ألصق بالدين من المحدثات فهو بدعة يجب اعتبارها ليست من الدين وإن تراءت في صورة ما يقتضيه الدين ... إن المعاملة مبنية على مراعاة مصالح البشر ونظام اجتماعهم العمراني، ولذلك كانت أغلب أحكام المعاملات المأخوذة من القرآن كلية قلَّ أن نعثر فيها على التفصيل، وإن الأنسب لسماحة الدين وبقائه وصلاحيته لكل زمان ومكان أن يكون للزمان والمكان والعرف والعادة والبيئة مدخل في تكييف أحكام المعاملات وتطبيقها على الحوادث الجارية ".
- العلم: " ... البحث في أنواع العلوم التي تصلح لنهضتنا، فهو معدود من لغو الحديث، واحتياج الحي إلى العلم في هذا الزمن أصبح قرين احتياجه إلى الطعام".
- الأخلاق: "ولنا أساسٌ نبني عليه، ولا يعسر جد العسر إحياؤه هو الأخلاق الإسلامية المتوارثة، والتي نجد معظمها في القرآن في أوضح عبارة وأوضح بيان، ثم الأخلاق العربية المأخوذة من آدابهم التي هي أنفس ما خلفوه لنا من التراث".
- الإقتصاد: " إن سوق المال اليوم معترك أبطال، وإن في جوانبه رماة ونحن الهدف، وإن مكان المال من الحياة مكان الوريد من البدن، وإن الزمان دار دورته، وقضى الله أن يصبح المال والعلم سلاحين لا يطمع طامع في الحياة بدونهما ... والذي تقتضيه الحكمة الهادئة لنحفظ أنفسنا من هذه المزاحمة المريعة هو تأسيس شركات التعاون
_________
٧) الجزء الأول، ﷺ ٥٠ - ٥٨.
1 / 14
بين الفلاحين وبين التجار لتقي الصغار من الجانبين شرَّ تحكم الأجانب في أملاكهم ومجهوداتهم، ثم تأسيس مصارف مالية صغيرة تكون واسطة بين الجميع وتكون مع ذلك مستودعا للأموال المخزونة المعطلة ومرجعا لصناديق التوفير والاحتياط التي يجب أن تصحب هذه الحركة".
هذا المشروع النهضوي الذي حدد معالمه الإبراهيمي عام ١٩٢٩ ينطلق من وعي كامل أن الجزائر تنتمي إلى الحضارة الإسلامية، وأن في كل حضارة ثابتا ومتحولا، وأن المحافظة على الثابت هو حفظ للشخصية الوطنية من الاستلاب: "إن مشخصات الأمم منها جوهر ومنها عرض، وإن الجوهر منها هو الصالح للبقاء، وإنه لا يد للفرد وللجماعة في تكييفه كما يشاء أو كما تشاء، وأن تطوره موكول إلى تدبير الاجتماع لا إلى تدبير الجماعات، وأن العرض منها هو محل التبديل والتغيير، يصلح لزمن فيؤخذ، ولا يصلح لآخر فينبذ، فالمحافظة على جوهر المقومات ليست محافظة وإنما هي حفظ للقومية من الاندغام والتداخل وعماد لها أن تتداعى وتسقط، وأما الأعراض فهي قشور تتحول وتزول كأوراق الخريف توجد وتعدم، والشجرة شجرة" (٨).
وفي عام ١٩٣١، تأسست جمعية العلماء فأدرج الإبراهيمي مشروعه النهضوي في القانون الأساسي للجمعية الذي حرره في نفس السنة (٩)، وفي نص أساسي صدر به سجل مؤتمر جمعية العلماء سنة ١٩٣٥ (١٠)، والذي شرح فيه أسباب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم، والذي حدد فيه شروط النهضة الجزائرية التي- أكد من جديد- أنها يجب أن تقوم على الإسلام: "أي شباب الإسلام، إن الأوطان تجمع الأبدان، وإن اللغات تجمع الألسنة، وإنما الذي يجمع الأرواح ويؤلفها، ويصل بين نكرات القلوب فيعرفها فهو الدين، فلا تلتمسوا الوحدة في الآفاق الضيقة، ولكن التمسوها في الدين، والتمسوها من القرآن تجدوا الأفق أوسع، والدار أجمع، والعديد أكثر، والقوى أوفر".
ثم حذر من المشروع التغريبي، وحدد موقفا واضحا وصارما من الاستعمار والتبشير والاستشراق والإلحاد، والطرقية والبدع والخرافات والأمية التي تمهد كلها لغزو المشروع التغريبي، وتقف في نفس الوقت عائقا دون تحقيق المشروع الإسلامي.
ويؤكد الإبراهيمي أن العلوم العصرية- التي هي إحدى الدعائم لإنجاز مشروعه النهضوي- يجب أن ننهل منها بدون عقدة، لأن الحضارة "هي في الحقيقة تراث إنساني
_________
٨) الجزء الأول من هذه الآثار، ﷺ ٤٦.
٩) الجزء الأول من هذه الآثار، ﷺ ﷺ ٧٤ - ٩٠.
١٠) الجزء الأول من هذه الآثار، ﷺ ﷺ ١٥٨ - ٢٠٠.
1 / 15
تسلّمه أمة إلى أمّة، وتأخذه أمة عن أمة فتزيد فيه أو تنقص منه بحسب ما يتهيّأ لها من وسائل وما يؤثر فيها من عوامل ... وقد أصبح احتكار المدنية لأمم خاصة تقليدًا شائعا متعاصيا عن التمحيص والنقد، ومن هذا الباب احتكار الغربيين للمدنية القائمة اليوم، وما هي في الحقيقة إلا عصارة الحضارات القديمة ورثها الغربيون عمن تقدمهم، وقاموا عليها بالتزيين والتحسين والتلوين، وطبعوها بالطوابع التي اقتضاها الوقت، وانتحلوها لأنفسهم أصلا وفرعا، ولا تزال التنقيبات عن مخلفات الحضارات القديمة تكشف كل يوم عن جديد يفضح هؤلاء المحتكرين ويقلل من غرورهم" (١١).
والمثقفون- في نظر الإبراهيمي- هم المسؤولون عن إنجاز مشروعه النهضوي لأنهم "هم حَفَظَة التوازن في الأمم وهم القَوَمَة على الحدود أن تهدم، وعلى الحرمات أن تنتهك، وعلى الأخلاق أن تزيغ، وهم الميزان لمعرفة كل إنسان حد نفسه، يراهم العامي المقصر فوقه فيتقاصر عن التسامي لما فوق منزلته، ويراهم الطاغي المتجبر عيونا حارسة فيتراجع عن العبث والاستبداد" (١٢)، وعلى المثقفين "الامتزاج بالأمة والاختلاط بطبقاتها والتحبّب إليها ومشاركتها في شؤونها الاجتماعية، والدخول في مجتمعاتها ومعابدها، ومشاركتها في عبادتها وفي الصالح من عوائدها ..، وثقة الأمة بالمثقفين هي رأس المال في هذا الباب " (١٢).
لقد طبَّق الإبراهيمي مشروعه النهضوي في حياته؛ إذ لقَّن العلم والدين والأخلاق كمدرس بالمدينة المنورة ودمشق في العقد الثاني من هذا القرن الميلادي، ثم كمدرس بمدينة سطيف في العقد الثالث، ثم كمدرس بمدينة تلمسان في العقد الرابع، ثم كزعيم حركة دينية وثقافية عظيمة بالقطر الجزائري في العقد الخامس، أما أهمية الاقتصاد والمال فلم يهملها فحث أنصاره وتلامذته على الاهتمام بهذا الجانب- خاصة بشراء ما أمكن من الأراضي الزراعية عن المعمرين، وهي أراضي كانت سلبت من أجدادنا، وبإنشاء تعاونيات بين التجار والحرفيين- واستطاع في الأربعينات أن يدفع تجار القطر الجزائري الكبار إلى إنشاء شركة كبيرة تواجه الاحتكارات الاستعمارية آنذاك (١٣).
شخصية الإبراهيمي:
لقد سمعت الشيخ العربي التبسي (١٤) ﵀ يردّد في كثير من مجالسه: "إن الإبراهيمي فلتة من فلتات الزمان، وأن العظمة أصلٌ في طبعه ". والعظمة الحقيقية- في رأيي-
_________
١١) "آثار الإمام الإبراهيمي"، ج١، ﷺ ٣٧٤.
١٢) "آثار الإمام الإبراهيمي"، ج٢، ﷺ ١٢٦ و١٢٩.
١٣) هي شركة "آمال" التي تأسست سنة ١٩٤٧.
١٤) كان نائب الإبراهيمي في رئاسة جمعية العلماء.
1 / 16
تكمن في القلب. والحقيقة إن الإبراهيمي كان عظيمًا بعقله ووجدانه، بقلبه ولسانه، فكل من تقلب في أعطافه نال من ألطافه، فالقريب والرفيق والسائل والمحروم والمريد والتلميذ يجد فيه الأب الشفيق والأخ الصديق، الذي لا يبخل بجهده وجاهه وماله- وإن قل- لتفريج الكروب وتهوين الخطوب، وما تقربت منه إلا ملك قلبك بحلمه، وغمر نفسك بكرمه، قبل أن يشغل عقلك بعلمه، ويسحر لبّك بقلمه، وكانت الخصال البارزة فيه الإيثار والحلم والوفاء.
وفي تحديد هذه الشخصية يقول أحد رفاقه، الأستاذ أحمد توفيق المدني- ﵀ عندما تبوأ كرسيه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة: " ... فتقدم الإبراهيمي الأمين يحمل الراية باليمين، لا يأبه للمكائد ولا للسجون ولا يبالي بالمنافي في الفيافي، بل دخل المعمعة بقلب أسد وفكر أسدّ، ووضع في ميزان القوى المتشاكسة يومئذ تدك الصفات التي أودعها الله فيه:
- علمًا غزيرًا فيّاضًا متعدد النواحي، عميق الجذور.
- وإطلاعًا واسعًا عريضًا يُخيّل إليك أن معلومات الدنيا قد جُمِعَت عنده.
- وحافظة نادرة عزّ نظيرها.
- وذاكرة مرنة طيّعة جعلت صاحبها أشبه ما يكون بالعقل (الإلكتروني).
- .. كدائرة معارف جامعة سهلة التناول من علوم الدين التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد بحق، إلى علوم الدنيا مهما تباينت واختلفت، إلى شتى أنواع الأدبين القديم والحديث بين منظوم ومنثور، إلى تاريخ الرجال والأمم والدول، إلى أفكار الفلاسفة والحكماء من كل عصر ومصر، إلى بدائع الملح والطرائف والنكت، كل ذلك انسجم مع ذكاء وقّاد، ونظرات نافذة، تخترق أعماق النفوس وأعماق الأشياء.
- وفصاحة في اللسان، وروعة في البيان، وإلمام شامل بلغة العرب، لا تخفى عليه منها خافية، وملكة في التعبير مدهشة، جعلته يستطيع معالجة أي موضوع ارتجالًا على البديهة، إما نثرًا أو نظمًا ...
- ودراية كاملة بجميع ما في الوطن الجزائري، يحدثك حديث العليم الخبير عن أصول سكانه وقبائله، وأنسابه ولهجاته، وعادات كل ناحية منه، وأخلاقها، وتقاليدها، وأساطيرها الشعبية، وأمثالها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية ..
- كل ذلك قد توّج بإيمان صادق، وعزيمة لا تلين، وذهن جبّار، منظّم، يخطط عن وعي، وينفّذ عن حكمة، وقوة دائبة على العمل، لا تعرف الكلل ولا الملل.
هذا هو البطل الذي اندفعنا تحت قيادته الموفقة الملهمة نخوض معركة الحياة التي أعادت لشعبنا بعد كفاح طويل لسانه الفصيح، ودينه الصحيح، وقوميته الواعية الهادفة " (١٥).
_________
١٥) مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة، عدد ٢٤، يناير ١٩٦٩.
1 / 17
وتتجلى شخصية الإبراهيمي كذلك في ثقافته، إذ لم يكن عالما بالمعنى المعروف عن معظم علماء الدين التقليديين، بل كان عالما شاملا تعمق في كثير من فنون العلم والمعرفة، بالإضافة إلى علوم الدين، توّج ذلك كله ذكاؤه وموهبته الخارقة في سرعة الاستيعاب والاستنباط والاجتهاد، وتوظيف ذلك كله لخدمة الإسلام والوطن والأمة، مما أهّله لتَبَوُّإِ سدة الريادة والقيادة، وقد تحدث أحد تلامذته، الأستاذ عبد المجيد مزيان عن ثقافته فقال:
"ونشهد كما عرفناه، نحن تلامذته- أنه كان من أعلم أهل عصره بالعلوم الإسلامية والعربية، كان إمامًا لا نظير له في علوم الحديث، وكانت نيته أن ينشئ مدرسة مغربية للحديث، لو ترك له النضال الفاتك بوقته قليلا من الوقت، وقد أنشأ مدرسة «دار الحديث» لهذا الغرض البعيد الأهداف ...
... وكان مفسّرًا للقرآن في دروس عمومية ودروس للطلبة الخواص، أتى فيها بإبداعات سجلتها عنه ذاكرة الرجال، ولو لم تجمعها المكتوبات، وكان معلما للتاريخ الإسلامي ببراعة تحليل وسعة نظر، يتطرق إلى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق لينير التاريخ بمنظار الفكر الإسلامي والالتزام الأخلاقي الذي تدعو إليه النهضة الثقافية والإصلاح، وكان أستاذًا في اللغة والآداب العربية، يجمع بين الأصيل والجديد، وإن كان في أسلوبه الخطابي معجبًا بروائع البلاغة العربية، متعشقًا لآثار الفطاحل المبدعين في العصور النيّرة من الجاحظ إلى ابن خلدون.
وكان مع هذا كله قدوة في سهولة المعاملة والاتصال، بشوشًا مَرِحًا في مجالسه، واسع الصدر في ممارسة المسؤوليات متفجر الحيوية في أنشطته الثقافية، كاتبًا وخطيبًا، وصحافيًا وأستاذًا وإمامًا" (١٦).
وتميز الإبراهيمي- أيضًا- بثقافة عصرية اكتشفتها شخصيًا عندما سألني في إحدى ليالي عام ١٩٤٨ - وأنا بقسم الفلسفة في خاتمة تعليمي الثانوي- عن آخر درس تلقيته في علم النفس، فأخذ رأس الموضوع وشرح لي آراء وليم جامس (William James) أحد مؤسسي المذهب العملي (البراجماتي)، وتحدث عن كثير من مفكري الغرب، ممن لم أكن سمعت بهم قبل ذلك اليوم مثل داروين (darwin) وجون لوك (john Locke) وجون ستيوارت ميل (john s. mill) الخ. كما أوضح لي مساهمة العلماء المسلمين في كثير من الجوانب.
وتتجلى شخصية الإبراهيمي في موقفه من الوظيف وتركيزه على حرية العالم الديني والمثقف حتى يستطيع القيام بواجبه لأنه كان يرى أنه "لا توجد في الإسلام وظيفة أشرف قدرًا، وأرحب أفقًا وأثقل تبعة وأوثق عهدًا وأعظم أجرًا عند الله من وظيفة العالم
_________
١٦) مجلة "الثقافة"، الجزائر، عدد ٨٧، مايو ١٩٨٥، [ص: ٨].
1 / 18
الديني" (١٧)، وقد قام بهذه "الوظيفة" أحسن قيام في جميع مراحل حياته، مما جعله يرفض رفضا قاطعا كل العروض التي تقدمت بها السلطات الفرنسية لمناصب متعددة، معتبرا الوظيفة عند الحكومة رقًا، وأن ولاء العالم الديني للقرآن لا للسلطان، وأن ولاء المثقف للحكمة لا للحاكم. فبعد عودته إلى وطنه من رحلته المشرقية الأولى في العشرينات كانت الأمية سمة الأغلبية الساحقة من المجتمع الجزائري، وكانت هناك أقلية- لا تتعدى المئات- يمكن أن نطلق عليها اسم الطبقة المثقفة، وكانت هذه الطبقة تعيش بالوظيف: فالمثقف بالفرنسية معلم ابتدائي أو موظف بالبلدية، والمثقف بالعربية إما مُفْتٍ، أو إمام، أو قاضٍ، وكلهم يتقاضون مرتبات من الحكومة الفرنسية، وضمن هذه الأقلية هناك أفراد رفضوا الوظيف، منهم الإبراهيمي الذي عرض عليه منصب الإفتاء في مدينة سطيف في العشرينات، ثم منصب الإفتاء بمدينة بجاية سنة ١٩٣١ (١٨)، وفي بداية الحرب العالمية الثانية أعادت الحكومة الفرنسية الكرة وعرضت عليه إنشاء منصب "شيخ الإسلام" بالجزائر وبإسناده إليه إن قبل إلقاء أحاديث إذاعية تأييدا لفرنسا ضد ألمانيا، فرفض، وكلفه ذلك النفي ثلاث سنوات بقرية آفلو.
وأشهد أنني عندما نجحت في امتحان البكالوريا سنة ١٩٤٩، استشرت والدي عن نوعية الدراسة العليا التي ينصحني باتباعها، فقال لي- ﵀: اختر ما شئت، شريطة أن تمارس مهنة حرة، وألا تصبح موظفا عند الحكومة الفرنسية. وعندما أخبرته أنني سجلت في كلية الطب أهداني نسخة نادرة من "القانون في الطب" لابن سينا قائلا: هذا نموذج من مساهمة أجدادك في علم سوف تخوض غماره.
وحتى إذا كان الحاكم من بني جنسه ودينه كان الإبراهيمي يؤمن أن الكلمة أثمن من أي سلاح، وأن مهمة الفكر هي إيقاظ ضمير الدولة لا خدمة رِكابها، وأن علاقة المثقف بالسلطة لا يمكن أن تكون علاقة ولاء. وهكذا- في رحلته المشرقية الأولى- طلب منه الملك فيصل بن الحسين بدمشق أن يتولى إدارة معارف الحجاز فرفض وفضّل العودة إلى الوطن (١٩).
وهكذا إبّان حرب التحرير الجزائرية (١٩٥٤ - ١٩٦٢) أعلن تأييده للثورة فور اندلاعها قبل كل الشخصيات المعروفة آنذاك، ثم قدّم خدمات جليلة للثورة، داعيًا إليها، منوّهًا بعظمتها، مطالبًا الدول الإسلامية بدعمها بالمال والسلاح والدبلوماسية (٢٠). ولكن عندما
_________
١٧) آثار الإمام الإبراهيمي، "وظيفة علماء الدين"، ج ٤، ﷺ ١٠٩.
١٨) محمد الصالح الصديق: مجلة الثقافة، الجزائر، عدد ٨٧، مايو ١٩٨٥، ﷺ ٣٦٥.
١٩) آثار الإمام الإبراهيمي، ج ٥، ﷺ ١٦٦.
٢٠) آثار الإمام الإبراهيمي، ج ٥، وأغلب ما احتوى عليه الجزء الخامس من آثار الإمام في خدمة الثورة التحريرية بالجزائر.
1 / 19