البلاغة العربية
البلاغة العربية
Penerbit
دار القلم،دمشق،الدار الشامية
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م
Lokasi Penerbit
بيروت
Genre-genre
مقدمة الكتاب
الحمد لله ربّ العالمين الذي أتقن كلّ شيءٍ صنعًا، وفطر النفوس على حبّ الجمال، وزيّن ما خلَقَ بزيناتٍ روائعَ تميلُ إليها النفوس، وتأنَسُ بها وترتاح إليها، وهي تدلُّ عَلى إبداع خالقها وإرادته الحكيمة، في كلّ ما خلق من ظواهر وبواطن.
هو الذي أنزل كتابَهُ القرآن معجزًا، وآيةً عظيمةً تدلُّ علَيْه، ومن إعجازه ما فيه من جمالٍ بيانيّ وبلاغةٍ رائعة لا ترقى إلى مِثْلها بلاغَةُ جميع البلغاء، ولا فصاحة جميعِ الفصحاء.
والصلاة والسلام على رسُولِنا محمّدٍ خاتم النبيّين والمرسلين، وإمامهم، مَنْ خَصَّه الله بالدّينِ الخاتم، والكتاب الخاتم المعجز، فأنزلَهُ عليه مُتكَفِّلًا بحفظهِ مِنَ التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، بقَصْدٍ أو نسيان، فهيّأ له من وسائلِ الحفظِ ما جَعَلهُ باقيًا كما أنْزَلَهُ في السُّطُور والصُّدور وأدواتِ التسجيل الصوتي.
وبعدُ:
فخدمةً للقرآن كتاب الله المجيد، وحرصًا على إبراز بعض جوانب إعجازه البيانيّ، اجتهد علماء المسلمين بحثًا، وتَنْقِيبًا واستخراجًا، حتَّى وَضَعُوا علوم البلاغة الثلاثة: "المعاني - والبيان - والبديع" وما يزال الباحثُون يَبْحَثُون
1 / 5
ويستَخْرِجون ويكْتَشِفُون مِن عناصر إعجاز القرآن البياني ما لم يكتشِفْهُ السّابقون.
على أنّ كتاب الله ﷿ أوسَعُ من أن يُحْصِيَ كُلَّ عناصرِ إعجازه البياني الباحثون والمستخرجون والمكتشفون، مهما اجتهدوا ونقَّبُوا، لأنّ كثيرًا من عناصر الجمالِ تُدْرَكُ بالحسّ الجماليّ ولا يُسْتطاعُ تحديدُها والتعبيرُ عنها ولا اكتشافُ عناصِرِها.
وسيظهر في كلّ عَصْرٍ من جوانب إعجاز القرآن البياني روائع ما توصَّلَ السّابقون إلى اكْتشافها واستخراجها، فَهُو كتاب لا تفنى عجائبُهُ، ولا يَخْلَقُ عَلى كثْرةِ الرَّدّ، كَما جاء وصفُهُ في كلام الرسول ﷺ.
وقد فتح الله عليّ بجملة طرائف ولطائف هي من عناصر إعجاز القرآن البياني، أردتُ أن أضيفها إلَى علوم البلاغة التي استقرّت منذ قرون على هَيْكلٍ لم يَدْخُلْهُ من الإِضافات والتعديلات إلاَّ القليل، وبعضُ التطبيقات من الأمثلة.
وفتح الله على غيري من الباحثين متناثرات تَتّصِل بموضوع إعجاز القرآن البياني، ويَحْسُنُ أن تُضافَ إلى علوم البلاغة، كظاهرة التصوير الفنّي الّتي اهتدى إليها المرحوم "سيّد قطب" وكالْبُحوث الطيّبة حول القصّة القرآنيّة الّتي نجدها لدى عدد من الباحثين المعاصرين.
فعزمْتُ مستعينًا بالله العزيز الحميد الوهّاب أنْ أجْمَعَ ما انتهى إليه السّابقون من علوم البلاغة، محاولًا التذليلَ والانتقاءَ واستيعابَ الأمّهاتِ والْمُهِمّات، متجاوزًا التفصيلاتِ التي لا تُكسِبُ مَلَكَةَ تَذَوُّقِ الجمال البياني، والّتي دخلت في علوم البلاغة بتأثير الدراسات المنطِقيَّةِ والرّياضيّةِ العقليّة الصِّرْف، ومتجاوزًا الإِجراءات التي تُشبه التحليل الكيميائي في معامل الكيمياء، والتي تفقد النصّ روعته الجماليّة، كأنواعِ الاستعارات في الفعلِ والحرف وإجراءاتها، وأشباه ذلك.
وأرجو أن أُوَفّق لتحقيق ما عزمْتُ عليه من تقريب علوم البلاغة وفُنُونِها
1 / 6
للأجيال المعاصرة من ناطقي اللّغة العربية، بالأُسلوب الذي يُسَهِّلُ عليهم فَهْمَها، ويُيَسِّرُ لهم تَطْبيق قواعدها على الأمثلة من القرآن، وأقوال الرسول، وغيرهما من نَثْرِ وشِعْرِ البلغاء، ويُشجّعُهم على أن يقتدوا في بيانهم بالنماذج الرفيعة من النُّصوصِ البليغة، وأن يبتكروا أشياء بديعةً تهديهم إليها الفطرة الرّبّانيّة، بما أوْدع الله فيما خَلَقَ وفيما أنزل من جمال، وبما أودع فيهم من حِسٍّ جماليّ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلَّى الله وسلم على سيّد البلغاء من الناس مُحمّدِ بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عبْدالرحمن حسن حَبَنَّكة الميْداني
مكة المكرمة فى ٩/٤/١٤١٤هـ
٢٥/٩/١٩٩٣م
1 / 7
مقدمات عامة
1 / 9
(١) الغرض من دراسة علوم البلاغة والأدب
البلاغة بفنونها الثلاثة "المعاني - البيان - البديع" وسائر الفنون الأدبية التي نبَّه عليها أدباء العرب، وكذلك سائر المذاهب الأدبيّة المستوردة من الشعوب غير العربيّةِ ليست إلاَّ بحوثًا وتتبُّعاتٍ لاكتشاف عناصر الجمال الأدبيّ في الكلام، ومحاولات لتحديد معالمها، ووضع بعض قواعدها، دُون أن تستطيع كلُّ هذه البحوثِ والدّراساتِ جَمْع كلِّ عناصر الجمال الأدبِيّ في الكلام، أو استقصاءها، واكتشاف كلّ وجوهها.
فالجمال كثيرًا ما يتذوّقه الحسّ الظاهر والشعور الباطن، دون أن يستطيع الفكر تحديد كلّ العناصر التي امتلكت استحسانه وإعجابه، وإنْ عرف منها الشيء الكثير، واستطاع أن يُفْرِزَه ويُحَدّد معالمه.
إنّ آفاق الجمال أوسع من أنْ تُحَدَّدَ أو تُحْصَرَ بأُطُرٍ مقاييس، ولكن يمكن اكْتشَافُ بَعْضِ عناصرِ الجمال، وكُلِّيَّاتِه العامّة، وطائفةٍ مِنْ ملامحه.
والْغَرَضُ من عرض الباحثين لفنون البلاغة وعلومها، وللمذاهب الأدبيّة المختلفة، وللأمثلة الأدبيّة الراقية المقرونةِ بالتحليل الأدبي والبلاغي، تَرْبيةُ القدرة على الإِحساس بعناصر الجمال الأدبيِّ في الكلام الأدبيّ الرفيع، وتربية القدرة على فهم النصوص الجميلة الراقية، والقدرة على محاكاة بعضها في إنشاء الكلام، والقدرة على الإِبداع والابتكار لدى الذين يملكون في فطرهم الاستعداد لشيء من ذلك.
1 / 11
وليس الغرض من دراسة هذه الفنون والعلوم والمذاهب والنصوص، الجمودَ في قوالِبِ ما اسْتُخْرجَ من العناصر الجمالية، وما وُضع من قواعد، دون اكتساب الإِحساس المرهف بمواطن الجمال، لتقديم الأفكار، وصياغة الكلام صياغةً أدبيّة بليغة.
فَمَع ضرورة التَّسلُّح بهذه الدراسة، والاطلاع الواسع على النصوص الأدبيّة الجميلة الراقية، ودراستها دراسةً تَحْلِيلِيَّةً تكشفُ من جوانب الجمال والإِبداع فيها على مقدار اسْتِطَاعَةِ الْمُحَلّل، لا يصِحُّ بحالٍ من الأحوال الجمود عندها دون محاولات الابتكار والإِبداع والتجديد، بشرط أَنْ يكون ذلك الابتكار قادرًا على انتزاع إعجاب ذوي الإحساس المرهف، والذَّوْق الرَّفيع في إدراك الكلام الأدبيِّ الجميل البليغ.
هذه الحقيقة لا بُدَّ من ملاحظتها دوامًا لدى أيّةِ دراسَةٍ بلاغيّةٍ وأدبيّة، ولدى إنشاء أي نصٍّ أدبيّ جديد.
ومن الخير دوامًا لكّل كاتب أو مُنْشِىءٍ أو شاعرٍ أن يحْذَرَ منْ أنْ يضَعَ الصورة الأدبيَّةَ الّتِي دَرَسَها بلاغيًّا أو أدبيًّا، وينشِىءَ كلامَهُ على قَالَبِها، فإذا فَعل ذلِكَ أَفْسَدَ كلامه، وشوّه روح القاعدة البلاغيّة أو الأدبيّة، وإن التزم بصورتها.
إنّ تربية الذوق والملكة البيانيّة، مع تلقائيّة الأداء التعبيريّ لدى إنشاء الكلام كتابةً أو ارتجالًا، عند منْ يَمْلك الاستعداد لأن يكون أديبًا بليغًا، هي الكفيلة بتفجير الإِبداع المطلوب في الأدب، بشرط عدم الخروج عن ضوابط قواعد اللّغة وأصول البيان.
ومن جيّد ما قرأت في التعريف بخير الكلام، قول "خالد بن صَفْوان" وهو من فصحاء العرب المشهورين، كان يجالس عُمَر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك، توفي نحو (١٣٣ هجرية):
1 / 12
"خَيْرُ الكلام مَا طَرُفَتْ مَعَانيه، وشَرُفَتْ مَبَانِيه، والْتَذَّه آذان سَامِعِيه". عن لسان العرب في مادة "طرف".
***
(٢) نظرات تحليليّة حول الغرض من الكلام
الغرض من الكلام التعبيرُ عمّا في الفكر ومشاعر النفس وأحاسيسها بألفاظٍ دالّةٍ على ما يريد المتكلّم التعبير عنه.
والكلماتُ رموزٌ اصطلاحيَّةٌ في الأوضاع اللُّغويّةِ الأولى، وفي الاستعمالات اللاّحقة للأَوْضَاعِ اللّغويّة والناجمة عن اسْتِخْدام الناس لمختلف الأساليب والْحِيَلِ الكلامية الْقَائِمةِ على التوسُّع في دلالاتِ الألفاظ، والانتقال بِها منَ الْحسّيَّاتِ إلى ما وراءَها، حتّى العقليَّات المجرّدة.
* فمن أمثلة ذلك الحسيّات:
التّضَرُّعْ: كان بمعنى خَفْضِ رَأْس الرّضِيع من صغار البهائم كَحَمَلٍ أو عِجْلٍ أَوْ سَخْلَةٍ، ونحو ذلك، ليَرْضَعَ مِنْ ضَرْعِ أُمِّهِ، فصار في التوسُّع اللُّغَوِيّ بمعنَى الذُّلّ والانْكِسار، ونَزَلَت التعاليمُ الرَّبَّانِيَّةُ المبيِّنَةُ للصُّوَرِ الْمُثْلَى من دَرجاتِ العبادةِ لله ﵎، فَعَلَّمَتْنَا أَنَّ أَمْثَلَ الْعِبَادَةِ لله ﷿ ما كانَ بتَضَرُّع له، أي: بذُلِّ وانْكِسَارٍ اسْتِجْدَاءً لِرَحْمَتِهِ وَحَنَانِهِ، ويُعَبَّرُ عن حالَةِ الذّلِّ والانكسارِ في النفس بالركوعِ والسُّجُودِ لله جلَّ وعَلاَ.
* ومن الأَمثلة في العقليّات:
الحدّ - والْحُدود: فَأَصلُ الحدِّ في اللّغةِ الحاجزُ بَيْنَ شيئَيْنِ مادّيّيْنِ مُدْرَكَيْنِ بالْحِسِّ الظّاهر، كالأعلام والْفَوَاصِلِ الَّتِي تُوضع في نَحْو آخِرِ الأَرْضِ الَّتِي يملُكَها إِنْسَانٌ ما، لتُبَيِّنَ انْتِهاءَها وانْفِصَالهَا عَنْ غَيْرِها من ممتلَكَات الآخَرِينَ.
1 / 13
ثُمَّ صَارَ تَوَسُّعٌ في كلمة "الحدِّ" وجمعها "الحدود" فصارت تدلُّ على ما يفصل المعانِيَ الفكريَّةَ بعْضَها عن بعض، من بيانٍ جامعٍ لكُلِّ عَنَاصِرِ المحدود، مانعٍ من دُخولِ غَيْرِهِ فِيه.
وبالحدودِ البيانيّة تُحْمَى المعاني من أنْ يتداخل بعضُهَا في بَعْضٍ، أو يختلط بَعْضُها ببعض.
وتُسْتَخْدَمُ في الكلام الأشباهُ والنَّظَائِرُ، ودَلالاَتُ اللَّوازِم الكفريّةِ، لإِفْهَامِ الآخَرِينَ ما يُريدُ ذو الكلام التَّعْبِير عنْه، كمَا هو في ذهْنِهِ، أَوْ في مَشَاعِرِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي إحْسَاسَاتِهِ الجَسَدِيّة، أو الوجْدَانِيَّةِ الباطنة.
فلدَينا إذَنْ كلماتٌ مُفْرَدة، وجُمَلٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كلماتٍ، وجَمِيعُها ذَواتٌ أَلْفَاظٍ وَذَوَاتُ دَلالاتٍ، وَأَلْفَاظُهَا ذَواتُ حُروفٍ مجتمعة تَنْطِقُ بِهَا الأدواتُ النَّاطِقَةُ، وهِيَ تُصْدُرُ بأصْواتٍ فَتَقْرَعُ آذان السامِعينَ بمختلِفِ أشْكالِهَا وصُوَرِها.
وأصواتُ الحروفِ الَّتِي تُرَكَّبُ منْها الكلماتُ لها نَغَمَاتٌ وحُدودٌ مختلفات، فمنها ما يقْرَع السّمْعَ برِقَّةٍ ولينٍ فيستَحْلِيهِ، ومنْها ما يقرعُ السَّمْعَ بغلظةٍ وخُشُونَةٍ فَيَمُجُّهُ كَارهًا له، ومنْها ما ينْفِرُ منه السّمْعُ وتتقَزّزُ منْهُ النفس، سواءٌ أكان ذلك من الكلمة الواحدة مُفْرَدَةً، أمْ من اجْتِماع عدَّةِ كَلِماتٍ أحدثَ اجتماعُها ما لم يكُنْ عِنْدَ انْفرادِ كلِّ منها.
وَكلُّ أمّةٍ تَضَع ما تَلَقَّتْ منْ كلمات أجدادها، وما تُضِيفُ من كلماتٍ تضَعُها لتُعَبِّر بها عن أفكارٍ ومشاعرَ وأحاسيسَ قامَتْ في أنفسها، مَوْضِعَ التجربة، لاختبارِ مدى لينِها وسُهولَةِ النُّطْقِ بها، أو مَدى التَّأْثيرِ النَّفْسِيّ لدى النطق بها في أنْفُسِ السَّامعين، ولاخْتبار مَدَى استحسان الأسماع لها، أو استقباحها، واستغلاظها، والنُّفْرَة منها، وتَقَزُّز النفس لدى سماعها.
وخلال التجارب الطويلة تشيعُ غالبًا الكلماتُ الَّتي تَوَاضَعَ مُعْظَمُ النَّاسِ على
1 / 14
قبولها واسْتحْسَانِها، لأداءِ المعاني الَّتِي يُعبَّرُ بها عَنْهَا، مع ملاحظة الشُّعورِ بالتَّلاؤْم بينَ اللَّفظِ والمعنى في كثيرٍ من الكلمات، في المجتمع البشري الذي درجَتْ على ألسنة أفرادِه.
وتُعْزَلُ في الغالب ِ الكلماتُ القاسية الصعبة، والكلماتُ المستقبحة المستغلظة، والتي تتقزّزُ مِنْها النفوس، إِلاَّ ما كانَ منها مقصودًا لِبَيَانِ قُبْحِ المعنَى، أو ما كان منها مقصودًا للشتائم، ونحو ذلك.
ويَنتَقِي أصحابُ الأَذواقِ الرَّفيعَة منَ الكلمات أَلْيَنها في النُّطْقِ، وأحْلاها في الأسماع، أوْ أوفَقَهَا وأكْثَرها مُلاءَمَةً للمعاني الّتي تدلُّ عَلَيْهَا، ويخُصُّونَ بها أقوالهم ذوات الشأن، من خُطَبِ، ورسائل، ومقالات، وشِعْر، وقصّة وغير ذلك من موضوعات الكلام المحرّر المنتقى، الذي صار يُسَمَّى فيما بَعْدُ "أدبًا" لأنَّه في الكلام يُشْبهُ أدبَ السلوك في الأعمال.
وتظلُّ كلماتٌ مستقبحاتٌ شائعاتٌ، لدى من لهم هوىً في أن يستخدموا ألفاظًا قاسيةً خشنةً، تنفرُ منها الأسماع، إذْ يرَوْنَهَا نافعةً لهم في إزعاج الآخرين بها، أو لفت أنْظارِ الناس إليهم عن طريقها، كما يفعلون مثل ذلك في ألبستِهِمْ، وما يحملون من أسلحةٍ مستهجنة، وما يمارسون من حَرَكاتٍ وأعمال، إلى غير ذلك من أُمُورٍ يبتَعِدُ عَنْها الْمتأَدِّبُونَ من الناسِ بالآداب الحسنة، وذوو الأذواق الرفيعة، والسلوك الجميل الفاضِلِ بيْنَ الناس.
وقد تتدخَّلُ عوامل أخرى في بقاء كلماتٍ صعبةٍ ثقيلةٍ في النُّطْقِ ضمْن الكلام الدارج المستعمل في اللّغة، وهذه العوامل يصْعُبُ تحديدها، وتبقَى هذهِ الكلماتُ حَيَّةً في الاستعمال بحُكْمِ الإِلْفِ والتقليدِ والمحافظة على المواريثِ اللُّغَويّة.
ومن هذهِ العوامل تفاخُرُ الأُمَّةِ بقُدْرَةِ ألْسنَتِها على الانفرادِ بالنطق ببعض الحروف أو الكلمات، ومنها المحافظةُ على إحْدَى الصفاتِ القوميَّةِ للأُمَّة.
1 / 15
وتَظَلُّ كلماتٌ يسْهُلُ نُطْقُها على النّاس بالتداولِ في تَعاملاتِهمُ اليوميّة، ولو لم تكُنْ راقيةَ النغمات في تركيب حروفها، ولا عذْبةً في الأَسماع، ولكنْ بقيتْ في التداوُلِ بتأثير العادة، والحاجة إلى تداوُلها اليوميّ في تَعَامُلاتِ النّاس.
وهذه الكلماتُ يبتَعِدُ عَنْها أدباءُ الْقَومِ وشُعَراؤُهم وخُطباؤهم وكُتَّابُهم لدى إنشاء كلامهم المجوّدِ الْمُحَسَّنِ الذي يحرصُونَ على أنْ يكون له شأنٌ بينهم.
فظهر بسبب ذلك صنف من الكلمات ضِمْنَ اللُّغَةِ الواحدة، يوصَفُ بأنّه فصيحٌ، وصنْفٌ آخَرُ يوصَفُ بأنَّهُ غيرُ فصِيح.
ثُمَّ لدى تركيب الكلمات في الْجُمَلِ التي تدلُّ على المعاني الَّتِي يرادُ تعريفُ المخاطبين بها، قد ينشَأُ من التركيب قساوةٌ أو صعوبةٌ في النُّطقِ، أو استقباح واستغلاظٌ ونُفْرَةٌ منْهُ في الأسماع، فلا يكون الكلام في هيئته التركيبيَّةِ فصيحًا، على الرغم من فصاحة مفرداته قبل اجتماعها في هذه الهيئةِ التركيبيَّةِ الخاصّة.
فظهر بسبب ذلك ما يُسَمَّى به الكلامُ المركّبُ فصِيحًا أَوْ غَيْرَ فصيح.
لذلك نلاحظ أنَّ من يختار لكلامه مفرداتٍ فصحيةً، وينظمها في كلامه نظمًا ملائمًا فصيحًا، مع التزامه بضوابط قواعد اللّغة وأحكام أهل اللّسان النحويَّةِ والصرفية، فإنَّه يصِحُّ أنْ يُسَمَّى ناطقًا فصيحًا.
فصارت الفصاحة بهذا التحليل وصفًا للكلمة، وللكلامِ، وللمتكلّم.
* فيقال: كلمة فصيحة، ويُقَابلها: كلمة غير فصيحة.
* ويقال: كلامٌ فَصيحٌ، ويُقابله كلامٌ غيْرُ فصيح.
* ويقال: متكلّمٌ فصيح، ويُقابله: متكلّم غير فصيح.
وتختلف الأمم في أوضاعها اللغويّة، وفي أساليب كلامها، وتعبيراتها، وفي أذواقها، ومَا يلين من الكلمات والحروف في ألسنتها، وما يصُعُب ولا يلين عليها،
1 / 16
وما هو مستنكر مستهجَنٌ في أسماعها، وما هو مألوفٌ محبَّبٌ أو مقْبولٌ لديها، وهذه ظواهر فطرة الله للناس، كما قال الله ﷿ في سورة (الروم/٣٠ المصحف/٨٤ نزول):
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الآية: ٢٢] .
***
أمّا دلالات الألفاظ على المعاني المرادة، فتتعرّض لأحوال:
(١) إمَّا أنْ تكون قاصرة الدلالة غير وافية بتأدية المعنى المراد.
(٢) وإمَّا أن تكون وافية الدلالة بشرط وجود مُسَاعِدٍ لها من عبقريّة المتلقّي أو ذكائه المتفوّق، فإن لم يكن المتلقّي كذلك كانتِ الدلالة قاصرةً بالنسبة إليه.
(٣) وإمَّا أنْ تكون وافية الدلالة لدى الإِنسان المتوسّط الذّكاء. فإن كان المتلقي دون ذلك كانت الدلالة قاصرةً بالنسبة إليه، وإنْ كان المتلقّي فوق ذلك رأى فيه زيادةً مُمِلَّة.
(٤) وإمَّا أن تكون وافية الدلالة لدى الإِنسان الذي هو دون متوسّط الذكاء. فإنْ كان المتلقّي فوق ذلك كان الكلام بالنسبة إليه مُمِلًاّ مطوّلًا، ولا سيما بالنسبة إلى متفوّق الذكاء.
(٥) وتتعرَّض أيضًا دلالاتُ الألفاظ على المعاني المرادة لأحْوالٍ أخرى، في الموضوعات التي يُراد توصيلُ مضامينها إلى المتلقي، أو إقناعه بها، إلى ما يقتضي البسط، أو التوسُّطَ بين الْبَسْطِ والإِيجاز، أو الإِيجاز.
أو يقضتي الابتعاد عن التوجيه المباشر، بدرجةٍ أو أكْثَرَ بِحَسَبِ ذكاء المخاطَبِ أو المتلَقِّي، فَيُبْلِغُ إليه المعاني الَّتِي يريدُ تعريفَهُ بها إبلاغًا حسنًا.
1 / 17
فما يطابق حالَ المخاطب أو المتلقّي من الكلام مع فصاحة مفرادته، وفصاحة جُمَلِهِ المركَّبةِ هو الكلام البليغ.
والمتكلّم الذي يكون كلامه من هذا القبيل يقال له: متكلّمٌ بليغ.
ويرتقي الكلام البليغ بأساليبه في سُلَّمٍ ذي درجات متفاوتاتٍ فيكونُ بعضُه أبلغ من بعض، ضمْنَ الطبقة التي هو منها، والملائمة للْمُتَلَقِّي الذي يُراد إبلاغ المعاني المراد توصيلها إليه، مزيَّنةً بزيناتها التي تُعْجبُهُ وتُمْتِعُه، وتَهُزُّ مَشَاعِرَه، وتَسْتَأْثِرُ بجوانِب فكرِهِ ونفسه من الداخِلِ والخارجِ.
فيختلف الإِعجابُ بالكلام من كلامٍ بليغٍ إلى كلامٍ بليغٍ آخَرَ، بحَسَبِ نِسْبَهِ ما فيه من مرضياتٍ للفكر والمشاعِرِ والأحاسيس.
وهنا تبرز بلاغةُ الكلام، ومستوياتُ درجات هذه البلاغَةِ صعودًا ونزولًا.
ولا يكون الكلامُ بليغًا في اللِّسَانِ العربيّ لدى علماء البلاغة، ما لم يكن مع تأثيره في المخاطب بِهِ تأثيرًا بالغًا، كلامًا فصيحًا في مفرداته وجمله.
***
(٣) أسس البلاغة العالية والأدب الرفيع وشرحها في ثلاثة فصول
باستطاعة الباحث المتفكر اكتشاف أنّ مقادير الارتقاء في درجات سلّم البلاغة العالية والأدب الرفيع في اللّسان العربي تعتمد على نصيب الكلام من عناصر الأسس الثلاثة التالية:
الأساس الأول: الجمالُ المؤثر في النفس الإِنسانية، المفطورة على الميل إلى الأشياء الجميلة، وحُبّها، والارتياح لها، والتأثّر بها، والانفعال السّارّ بمؤثراتها.
1 / 18
الأساس الثاني: كون الكلام في مفرداته وجُمَلِهِ فصيحًا وفْقَ ضوابط وقواعد ومنهج اللّسان العربي، ولا يخلو هذا الأساس من مؤثرات جماليّة أيضًا.
الأساس الثالث: كون الكلام بليغًا، أي: مطابقًا لمقتضَى حال المخاطب به فردًا كان أو جماعة، وبالغًا التأثير المرجوَّ في نفسه، ولا يخلو هذا أيضًا من مؤثراتٍ جمالية.
ولشرح هذه الأسس الثلاثة يتطلَّبُ الْبَحْثُ المتأنيِّ عقْدَ ثلاثةَ فصول:
الفصل الأول: الجمال في الكلام.
الفصل الثاني: الفصاحة.
الفصل الثالث: البلاغة.
***
1 / 19
أسس البلاغة العالية والأدب الرفيع وشرحها
الفصل الأول: الجمال في الكلام
(١) حبُّ الجمال
حبُّ الجمال فطرةٌ في النفس الإِنسانية، فهي بقوة فطرية قاسرة تميل إليه، وتنجذب نحوه، وليس بمستطاع النفوس أنْ تغيِّر فطرها التي فطرها البارىء المصوِّر عليها.
والجمال شيء يصعب تحديده، ولكن باستطاعة النفوس أنْ تحسّ به وتتذوّقه متى أدركته، وعندئذٍ تميل إليه وتَنْجَذِب نحوه، وتأنس به، وترتاح إليه، وتَسْعَدُ بالاستمتاع بلذّة إحساس المشاعر به ولو تخيُّلًا، ويتفاوت النّاس في قدراتهم على تذوُّق الجمال والإِحساس بدقائقه كشأن تفاوتهم في سائر قدراتهم المادّية والمعنوية: مثل القوى الجسمية، وقدرات الذكاء، وقوى الإِبصار والسمع والشمّ والذوق واللّمس.
والجمال يكون في كل المجالات التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة،
1 / 20
حتى مجالات الأفكار، والتخيّلات، والوجدانيّات، والطباع، والأخلاق، وأنواع السلوك الإِرادي النفسي والظاهر.
ففي ساحة المرئيات تشاهد الأبصار مرئيات جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتًا كبيرًا، وتشاهد مرئيات قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتًا كبيرًا وتشاهد وسطًا فاترًا لا يجذب بجمال، ولا ينفِّر بقبحٍ. وفي ساحة الأصوات يسمع السامعون أصواتًا جميلة تتفاوت فيما تحظى به من نسب الجمال تفاوتًا كبيرًا، ويسمعون أصواتًا قبيحة تتفاوت فيما لديها من نسب القبح تفاوتًا كبيرًا، وتسمع أصواتًا فاترة لا تجذب بجمال ولا تُنَفِّر بقبحٍ.
ونظير ذلك في ساحة الروائح، وفي ساحة الطعوم، وفي ساحة الملموسات التي فيها ناعم وخشن، وصلب وليّن، وقاسٍ وَلَدْن، وحارٌّ وبارد.
وفي المشاعر الوجدانيّة ندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية جميلة لذيذة، كمشاعر الحبّ، ومشاعر الإحساس بفعل الخير، ومشاعر الأبُوَّة والأمومة، والشعور بطمأنينة القلب، وبالأمن. وندرك أنَّ لدينا مشاعر وجدانية قبيحة نتألّم بها، كالشعور بالذّلة والصّغَار، وكالحقد، والحسد، وكالشعور بالخوف والقلق. وندرك أنّ لدينا مشاعر وجدانيّة فاترة لا تُحدِث لذّة نفسية ولا تُحدِث ألمًا، كمشاعر الانتماء إلى أسرة مغمورة ليس لها مجد يُحدث في النفس لذّة الافتخار، وليس لها فضائح وقبائح تُحْدِث في النّفس ألم الصَّغار.
وفي الساحة الفكرية نُدرك أفكارًا جميلة حلوة، وأفكارًا قبيحة مرّة، وأفكارًا فاترة لا تُحْدِث انفعال استحسان ولا انفعال استقباح. إنّ الفكرة الذكيّة المبتكرة فكرة جميلة، وإنّ الفكرة الغبيّة المستنكرة فكرة قبيحة، وإنّ الفكرة العاديّة المكرّرة دون غرض فنِّي أدبي فكرة فاترة تمرُّ دون أنْ تثير أي انفعال، وكذلك الفكرة الغامضة التي لا يستطيع من تُعرض عليه أنْ يُدركها. ويمرُّ في أذهاننا شريط أفكار
1 / 21
طويل فلا يُحدث فينا أيّ انفعال من لذّة أو ألم، إنّها أفكار فاترة، وربّ فكرة تمرّ فتثير إعجابًا وانفعالًا عظيمًا نحوها، وقد تمرُّ فكرة فتتقزّز النفس منها وتصرفها بسرعة وتتجاوزها.
وفي ساحة التخيّل تمرُّ أخيلة جميلة حلوة لذيذة، وتَمرُّ أخيلة قبيحة كريهة، وتمرُّ أخيلة في شريط طويل، فلا تُحدث أيّ انفعال.
وفي ساحة التعبير البياني عن الأفكار والمطالب والتخيّلات والمشاعر النفسيّة والوجدانيّة تُوجَد تعبيرات بديعة جميلة جذّابة، تتملّك المشاعر، وتؤثِّر في القلوب، وتتفاوت فيما بينها بما تحظَى به من نِسَب الجمال تفاوتًا كبيرًا. وتوجد تعبيرات قبيحةٌ منفِّرة، وهذه تتفاوت فيما بينها بما فيها من نِسَب القبح تفاوتًا كبيرًا، وتُوجَد تعبيرات فاترة تمرُّ دون أنْ تُحدث في النفوس أيّ انفعال محبوب أو مكروه.
***
(٢) مجالات الجمال
من المعلوم لدى ذواقي الجمال أنّ الزينة من الجمال، وأنَّ كثيرًا من المقاصد والمطالب إذا قُدِّمت إلينا مغلّفة بزيناتها أو مقرونة بزيناتِها كنّا أكثر قبولًا لها، وانسجامًا معها، لأنَّ جمال الزينة قد جذبنا إليها، وأقنع عواطفنا وانفعالاتنا بقبولها، ولنحظَى بلذّة الاستمتاع بالجمال، فتتحقّق من وراء ذلك المقاصد الأساسيّة والمطالب.
وهذه الحقيقة تشمل الأفكار، فإذا قُدّمت بعض الأفكار المقصودة وما اشتملت عليه من مطالبِ اعتقادٍ أو عمل ممتزجةً أو مقرونة بزينات جميلة فكرية أو لفظية كانت النفوس أكثر انجذابًا إليها، وقبولًا لها، ثمّ تمسكًا بها أو عملًا بما طلب فيها.
1 / 22
إنَّ شأن الأفكار كشأن المآكل والمشارب والأدوية، وسائر المطالب والحاجات، فمنها ما هو حلو بطبعه، ومنها ما هو حامض، ومنها ما هو مرّ، ومنها ما هو ليّن، ومنها ما هو قاس، ومنها ما هو ناعم، ومنها ما هو خشن، ومنها ما هو مُهَوِّع مثيرٌ للغثيان، ومنها ما هو محرّك للشهوة مثير لِلُّعاب.
حتى الطيِّبات من المآكل والمشارب وغيرها يزيدها حسنًا وجمالًا وتطريةً وتحريكًا لشهوات النفوس نَحْوَها إذا قُدّمت في أطباق جميلة نفيسة، وعلى مائدة جميلة أنيقة، وفي أيدٍ نظيفة رشيقة حلوة لِخَدَم مكتملي الأناقة حِسَان، وفي مكان منظّم مليء بالأشياء الحسَنة الجميلة، من منظور ومسموع ومشموم وملموس ونحو ذلك.
فالفكرة المرّة قد تحتاج غلافًا حلوًا جميلًا يزيِّنها حتى يبتلعها مَنْ توجّه له.
والفكرة الشديدة الحموضة قد تحتاج مخالطًا يعدِّل حموضتها حتى يستسيغها من توجّه له.
والفكرة القاسية بطبعها قد تحتاج أسلوبًا يليِّنها ويعدِّل قساوتها.
والفكرة الخشنة بطبعها قد تحتاج أسلوبًا ناعمًا يغلِّفها ويهوِّن ابتلاعها.
وكما أنَّ الحسِّيّات الجسدية يحتاج كثير منها إلى ما يجمّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، كذلك الأفكار التي نريد تقديمها إلى الآخرين قد يحتاج كثير منها إلى ما يجمِّله ويحسِّنه ويزيِّنه للنفوس حتى تستسيغه، وهذا التجميل والتزيين والتحسين هو من عناصر الأدب الرفيع لا محالة.
ولكنْ ليس من الضروري لكلّ فكرة مقصودة بالذّات أنْ تُصنَع لها مزِّينات جماليّة لا يكون الكلام ذا أدب رفيع إلاَّ بها. فكثير من الأفكار جمالُها ذاتِيّ، وإذا قُدِّمت مجرّدة من كل الزينات والأصباغ والألوان في أحوال ملائمة لهذا التقديم كانت أرفع أدبًا، وكانت النفوس أكثر تقبُّلًا واستساغةً لها، فهي تزدردها او ترتشفها بشهوة بالغة.
1 / 23
وهذا نظير تقديم سيِّد المائدة العظيم لضيفه العزيز قطعة مقشّرة من الفاكهة، أو قطعة منتقاة من أطيب اللحم، مجرّدة من أيَّة زينات موافقة أو مغلّفة لها.
وقد يكون من رفيع الأدب تقديم الفكرة المرّة من غير تغليف ولا تحلية لتقديمها لمن يحسن إذاقته مرارتها، كأنْ يكون عدوًّا مجاهرًا بعداوته مواجهًا بشتائمه، وفي بعض الحالات التربويّة نلاحظ أنّه كما يحسن الضرب يحسن ما هو نظيره من الكلام.
***
(٣) حول تعريف الجمال
والجمال في الوجود مع إدراك النّاس له وإحساسهم بكثير من صوره، دقيق العناصر متشابكها فهو شيء يصعب جدًّا تحديده، ويَصْعب قِياسُه، ولا تنحصر ألوانه.
وبما أنّ الأدب لون من الجمال، فهو إذن تنطبق عليه قواعد الجمال العامّة.
إنّ من الجمال أحيانًا أنْ تتصنّع الحسناء، ومن الجمال أحيانًا أنْ لا تتصنّع، بل أنْ تظهر على طبيعتها. ومن الجمال أحيانًا أنْ تلبس الثياب الجميلة الساترة لكثير من مفاتن جسمها بطرائق خاصّة، ومِنَ الجمال أحيانًا أنْ تلمح بعض مفاتن جسمها إلماحًا ثمّ تسترها، ومن الجمال أحيانًا أنْ تتعرى على طبيعتها من غير ابتذال ثمّ تعود إلى سواترها.
ومِنْ أبدَعِ صُوَرِ الجمال التنويع فيه والتنقلّ من لون إلى لون آخر منه، أمّا الثبات والتكرار للصورة الواحدة في كل الأوقات فهو مُمِلٌّ للنفوس مهما كانت هذه الصورة جميلة.
1 / 24
باستثناء تكرار المقاطع في بعض ألوان صُوَر الجمال، كشجرة الورد على رأس كل زاوية عند منعطف الطريق، أو على رأس كلّ مسافة، لتكون بمثابة الدلالة.
وكذلك حال الأفكار وأساليب عرضها الأدبي، ومثل شجرة الورد المتكرّرة على رأس كل مسافة أو على الزوايا، آية: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الآية: ١٣] في سورة الرحمن عروس القرآن. لكنّها صورة قدّمت لونًا من ألوان الجمال الأدبي ومثالًا من أمثلته، قلَّما يوجد في سائر القرآن نظير مطابق لها، بل فيه ألوان أخرى.
ومع وجود قسم من الجمال لا يختلف اثنان في استحسانه، وقدر من القبح لا يختلف اثنان في استهجانه، فكم توجد أوساط مشتبهات تختلف فيها أذواق النّاس، وتختلف وجهات أنظارهم إليها.
فما يستحسنه بعض النَّاس منها قد لا يراه غيرهم حسنًا، وما يستقبحه بعض النّاس منها قد لا يراه غيرهم قبيحًا، وتتدخّل النظرات الذاتيّة الشخصية في قسم المشتبهات بشكل واسع، ويصعب فيها تحديد النظرة الموضوعية.
ويخضع الأدب لهذا القانون العام.
فقد يُرْضِي كلام ممدوحًا مغرورًا بنفسه بحبّ المديح، فيراه أدبًا رفيعًا مستحسنًا، لكنّه في الوقت نفسه يُسْخِط حاسدًا له، فيراه تزلّفًا تافهًا، وأسلوبًا في المدح سخيفًا مستهجنًا، ويسمعه فريق ثالث فلا يرى فيه ما يحرّك النفس بإعجاب ولا ما يحرِّك النَّفس بتقزّز واستجان.
وقد تُرْضِي تعبيرات حبِّ معشوقة، فتراها أدبًا رفيعًا مستحسنًا، فتحفظها وترويها بإعجاب، لكن هذه التعبيرات قد أسخطت في الوقت نفسه أترابها، فرأينها تعبيرات سخيفةً مبتذلة. ثمّ يسمعها حياديّون فلا يرون فيها رأيَ المعشوقة المعجَبَة، ولا رأي أترابها الساخطات، بل يرون فيها أدبًا عادّيًا.
1 / 25
وهكذا تختلف وجهات أنظار النّاس إلى هذه الأوساط المشتبهات، التي لم يتمحّص فيها الجمال، ولمْ يتمحّض فيها القبح، وتتدخّل عوامل نفسيّة في الاستحسان، أو في عدم الاستحسان، وربّما تتدخّل عوامل أخرى تّتصل بمدى القدرة على الإِحساس بالجمال، أو بمَدَى الخبرة بفنونه وألوانه وأشكاله ونسبته، أو بمَدَى دقّة الملاحظة التي قد تَقَعُ على النّقص فتقف عنده، وتجسّمه حتى يملأ الساحة، أو تَقَعُ على لمحة جماليّة فتقف عندها مُعَجْبَةً وتعظّمها، ويتدخّل الوهم في مدّها حتى تملأ كل الساحة. وهكذا.
***
(٤) عوامل اختلاف نظرات الناس إلى الجمال
لدى تحليل العوامل التي تجعل النّاس يختلفون في نظراتهم الجماليّة إلى الأشياء اختلافًا كبيرًا، حتى إنَّ الشيء الواحد قد يستحسنه فريق، وقد يستقبحه فريق آخر، ويجعله فاترًا واقفًا على الحياد فريق ثالث، والمستحسنون له قد يتفاوتون في درجة استحسانه، والمستقبحون له قد يتفاوتون في درجة استقباحه. لدى هذا التحليل نلاحظ العوامل التالية:
العامل الأول: التلاؤم أو عدم التلاؤم بين أجهزة الإِحساس في الإِنسان والأشياء التي يُدْرِكها ويُحِسّ بها.
والأمزجة والأذواق البشريّة تختلف في هذا اختلافًا فطريًّا لا يُنْكَر، وبسبب هذا العامل قد تختلف أحكامهم في هذا المجال.
العامل الثاني: تدخُّل أهواء أو مصالح شخصيّة مرافقة.
وبسبب هذه الأهواء أو المصالح تختلف وجهة نظر أصحابها عن وجهات أنظار الآخرين الذي ليس لهم أمثال هذه الأهواء أو المصالح.
1 / 26