جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان
فلما تولى الخلافة بعد عمر ﵁ سيدنا عثمان بن عفان رضوان الله عليه، وامتدت الغزوات والفتوحات في أرمينيا وأذربيجان، وبدأت راية التوحيد ترفرف على كثير من الأرض، وعاد حذيفة بن اليمان ﵁، أمين السر النبوي، ذلكم الرجل الذي أطلعه سيدنا رسول الله ﷺ على أسماء المنافقين، حتى ذهب إليه يومًا عمر بن الخطاب وقال: (أنشدك الله يا حذيفة! هل سماني رسول الله في المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا) .
فـ حذيفة رضوان الله عليه حضر هذه الغزوات، فعاد -والحديث في صحيح البخاري وغيره- إلى عثمان بن عفان ﵁ وهو يقول: (أدرك الأمة يا أمير المؤمنين قبل أن تختلف في كتابها كما اختلفت الأمم من قبلها! قال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت أرمينيا وأذربيجان، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمعه أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمعه أهل الشام، فكفر بعضهم بعضًا) .
وكان من رحمة الله سبحانه للأمة أن أنزل القرآن على قلب النبي ﷺ على سبعة أحرف، وقد قال النبي ﷺ: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف)، فكان الرجل يقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود، فيسمع صحابي آخر قرأ بقراءة أبي بن كعب، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:٦]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثبتوا)، والقراءتان صحيحتان، وكلاهما من قراءة النبي ﷺ من باب التخفيف والتيسير -كما قال جمهور المفسرين من أهل العلم.
فاختلف الصحابة القراء؛ فجاء حذيفة رضوان الله عليه إلى عثمان فقال: (أدرك الأمة يا أمير المؤمنين)، فشرح الله صدر عثمان ﵁ لما قاله حذيفة، فجمع القرآن الكريم.
أرسل الخليفة الثالث لـ حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف، فأرسلت الصحف التي جمعت في عهد أبي بكر ﵁، وانتقلت منه إلى عمر ثم إلى حفصة، ونادى زيد بن ثابت مرة أخرى، ونادى الكتاب الذين اختارهم سيدنا رسول الله ﷺ، وأمرهم أن يتتبعوا القرآن، وأن يجمعوه، ثم قال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه قد نزل بلسانهم.
واستقرت الصورة الأخيرة للقرآن على لسان قريش.
أي: على اللسان الذي نزل به القرآن الكريم على سيدنا رسول الله ﷺ؛ لأنه نزل بلغة قريش، وجمع عثمان رضوان الله عليه القرآن كله في مصحف واحد، وهذا هو الذي يسمى بالمصحف الإمام، ونسخ منه مجموعة من المصاحف، وأرسل إلى كل مصر -أي: إلى كل أفق من الآفاق، وبلد من البلدان الضخمة- بمصحف، وظل هذا القرآن موجودًا بين أيدينا إلى هذه اللحظة، لم تحذف منه آية، ولم تتغير فيه كلمة، ولم يتبدل فيه حرف؛ مصداقًا لقول ربنا ﷻ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:٩]؛ وما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد!
8 / 10