سمن ساخنة لزربة، تقدر بنصف لتر، وجدته يرتعش من البرد والحمى، ويشكو من مفاصله. تناولها منها وشرب نصفها. حين وجدته على هذه الحالة من المرض عادت إلى بيتها وأحضرت تيسا صغيرا. قام زربة من فراشه وهو يرتجف من البرد، يمسح على ظهر التيس كما يمسح الذئب، ذبحه وعاد إلى فراشه. قال لزوجته: اطبخي الدواء حقي. طبخت صفية التيس وقدمت له النصف. شرب المرق وشعر بالدفء، والتهم نصف قطعة كبيرة من حلاوة، ثم جلس يمضغ القات حتى الظهيرة.
هكذا كان زربة يقاوم المرض بالقات واللحم والحلاوة والمداعة. شعاره في الحياة «القات واللحمة حياتي والمداعة راحتي». استيقظ قبل الفجر يتحسس زوجته، فعرف أنها ذهبت تجلب الماء من وادي الرجيمة، مع نساء القرية. يبعد الوادي عن القرية أربع ساعات ذهابا وإيابا؛ خوفا من السباع يذهبن معا بعد منتصف الليل، ويعدن قبل طلوع الشمس. هكذا تبقى المرأة في الريف تعمل منذ الفجر حتى العشاء كالنحل، لا يرتحن إلا أثناء النوم.
عادت صفية من الوادي فأفرغت نصف الماء لبقرتها، والنصف الآخر ليغتسل به زربة، وذهبت تعد وجبة الإفطار من الخبز والبيض. حينما ذهبت لتحضر البيض الذي أحضرته مريم، لم تجد إلا القشور. عرفت أن زربة قد شربهن دفعة واحدة، خمس عشرة بيضة؛ ليعالج نفسه من البرد حسب زعمه. لم تندهش، فهي تعرف أنه أكل نصف تيس اليوم الماضي، وتذكرت حين أكل اثنين كيلو ونصف من الحلاوة مرة واحدة، وذات يوم التهم سبع علب أناناس، ومضغ عشر حزم كبيرة من القات حين وصل ليلا هو ووالده يحملان القات ليبيعاه يوم عيد الأضحى. أشرقت الشمس وقد أتيا على معظمه، لم يبق منه إلا كمية قليلة ليوم العيد، وتذكرت ذات يوم أنه ازدرد نصف كيلو حلاوة أثناء مضغه للقات وهو يقول: ربي خلق جهتين للفم؛ جهة للقات وجهة للحلاوة ههههه.
10
اجتمعت نساء القرية في دار سالم الحطاب بعد الظهر، يمضغن القات ويدخن المداعة. تحدثن بأمور نسائية شتى وحول زربة وقوته وشجاعته، وكيف استطاع حمل الحطاب على ظهره كل هذه المسافة، وصعد جبلا يقدر ارتفاعه بأكثر من اثنين كيلو. سلمى بنت عثمان التي كانت تحلم بزربة زوجا لها، لم تسمع حديثهن وضحكاتهن. كانت تحلق بعيدا مع زربة وهي تقفز من النافذة والتقفها بيديه والجو يكسوه الضباب. حملها على ظهره كما حمل الحطاب، وصعد بها قمة الجبل المطل على القرية. أحست بزربة تحتها يتصبب عرقا وشعرت بسخونته وارتفعت حرارتهما معا واشتعلت النيران في جسديهما. وراحا يضحكان على تلك النار التي كانت بردا وسلاما عليهما وهما يحسان بالأرض تهتز تحتهما. كانت أحلام اليقظة تراودها حين تسمع شيئا عن زربة.
مرض سالم الحطاب بالحمى، أخذت زوجته مريم ثلاث خيوط طويلة. قبض الحطاب بيده على الخيوط لمدة خمس دقائق ثم هرولت إلى طرف القرية. جلست هناك تنتظر هبوب الرياح لترمي بالخيوط. هكذا كان أهل القرية يعتقدون أن هذه الطريقة تشفي المريض من الحمى، إذا أخذ الريح الخيوط بعيدا ستذهب الحمى عن المريض. لكن حظ مريم كان سيئا فلم تهب الرياح، وبقي زوجها أسبوعا يعاني من الحمى.
ماتت «فنون» الزوجة الثانية لعاقل القرية، بعد معاناة طويلة من ألم في الرأس، كان هذا بعد مضي ثلاث سنوات من موت زوجته الأولى لول؛ بسبب ورم في الأحشاء. أمطرت السماء بغزارة بعد دفنها واستبشر الأهالي لها بالرحمة، وراحوا يتذكرون سنة موت سعد محمد من قرية نجاد، حين توقف المطر عن الهطول طوال الموسم بعد دفنه، فظنوا أنهم لم يضعوه في اتجاه القبلة؛ فالسماء لن تمطر وهو مستلق على ظهره ووجهه نحو السماء، فذهبوا ينبشون قبره بعد أربعة أشهر من دفنه. لم يجدوه كما كانوا يظنون، وجدوا هيكله على هيئة جلوس والكفن مطويا بشكل كرة على رأسه، مما يدل على أنه كان حين دفنوه في حالة غيبوبة، وحين صحا منها حاول رفع أحجار القبر. زعم بعض الأهالي المجاورين من المقبرة، أنهم سمعوا صياحا داخل قبر سعد بعد دفنه، وظنوا أن الملائكة تعذبه، فقد كان يغير حدود حقول جيرانه لصالحه. أما الجدة بهجة أم عبده راجح، كانت تصحو في منتصف الليل أحيانا، وتدعو ربها أن يعيد ابنها الوحيد عبده راجح الغائب عنها منذ عشرين عاما. قالت إنها شاهدت في منتصف الليل سلسلة حديد حمراء مثل الجمر، تنزل من السماء فوق المقبرة بعد دفن سعد محمد.
أقيم لزوجة العاقل عزاء لمدة ثلاثة أيام، وذبح الجزار مقبل الدسم بقرة، بعد أن تأكدت نعم جدة زربة أنها لا تحمل حملا في بطنها. حضر الكثير من سكان القرى المجاورة، بعد أن سمعوا التهليل في ذكر الله ليلا. أكلوا اللحم والقات ودخنوا المداعة كأنه مولد للولي ابن علوان.
11
تذكر زربة ما حدث قبل خمس سنوات، وقتها لم تمطر السماء إلا بعد أن طلع الأهالي قمة جبل شوكة يستمطرون ويتضرعون بالدعاء إلى الله، ينشدون معا:
अज्ञात पृष्ठ