وهذه هي المرحلة الثالثة بعد «فجر الإسلام وضحاه».
ومعذرة إلى القارئ الكريم من طول الفترة بين ظهور هذا الجزء، وآخر جزء من «ضحى الإسلام»، فإن ما كلفته من عمادة كلية الآداب لم يترك لي زمنا صالحا للسير في هذه السلسلة، فلما تخليت عنها احتجت إلى زمن آخر أروض فيه عقلي ونفسي على العودة إلى معاناة البحث، والصبر على الدرس.
واليوم فرغت من إعداد هذا الجزء، وقد قصدت به أن يكون مقدمة لدراسة واسعة للحركة العقلية في النصف الأخير من القرن الثالث وفي القرن الرابع، وهي أوسع حركة وأخصبها وأعمقها في تاريخ المسلمين إلى اليوم. وقد حزرت أن يستغرق وصفها خمسة أجزاء، أحدها للأندلس.
عنيت في هذا الجزء بناحيتين: (1)
وصف للحياة الاجتماعية في هذا العصر، فليس يمكن فهم الحياة العقلية إلا بفهم بيئتها التي نشأت فيها، والعوامل التي ساعدت عليها، وطبيعة الناس الذين أنتجوها ونحو ذلك. (2)
ووصف لمراكز الحياة العقلية، ونوع الحركات العلمية والأدبية التي ظهرت في كل إقليم وخصائصها، وأشهر رجالها، وهو وصف موجز ونظرة شاملة خاطفة، أردت منها أن تكون نقطة ارتكاز يتبعها تفصيلها والتوسع فيها فيما يأتي بعد من أجزاء إن شاء الله.
وفي سبيل الله ما لقيت من عناء، وخاصة في القسم الأخير؛ فقد تجاهل مؤلفو تاريخ العلوم ومؤلفو كتب التراجم - غالبا - الناحية الإقليمية والزمنية، فأرخوا الحركة العلمية على أنها وحدة، وترجموا للمؤلفين من غير مراعاة لأزمتهم ولا أمكنتهم، وكل ما راعوا هو ترتيب أسمائهم على حروف الهجاء، فأحمد في القرن الثاني في العراق بجانب «أحمد» في القرن السادس أو السابع في مصر، وهكذا؛ فمن أراد أن يفرز علماء كل عصر وحدهم، وفي كل قطر على حدة تحمل من العناء ما لا يقدر. ولم يحملني على سلوك هذا المسلك في التأليف مجرد الرغبة في إيضاح الحركة العلمية والأدبية وزمانها ومكانها؛ بل إن تحديد زمانها ومكانها يعين على تفهم أسباب وجودها وطبيعة تكوينها، فالموشحات والأزجال لم توجد في الأندلس دون غيرها اعتباطا، ولا المقامات نشأت في إقليم خراسان مصادفة، ولا الحركة الفلسفية أزهرت في العراق أول الأمر اتفاقا. وإنما ذلك كله يرجع إلى أسباب طبيعية حتمية، وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، فتعيين زمن الحركة ومكانها معين على فهمها فهما علميا صحيحا، وهذا ما قصدت إليه.
والله أسأل أن ينفع به كما نفع بسابقه، وأن يعين على إتمامه.
مصر الجديدة - الجمعة
16 ربيع الثاني سنة 1364ه
अज्ञात पृष्ठ