زرت الحي اللاتيني، مجمع الكوليج دي فرانس والسوربون والبانتيون، حي العلماء والطلاب، وحي الشباب، رعى الله الشباب!
طوفت حول الجامعة، فإذا طلاب وطالبات، برغم العطلة يغدون ويروحون، تفيض محافظهم بالكتب والأوراق، كما تفيض وجوههم الفتية بالنشاط والبشر، وإن علتها ملامح الجهد والتفكير هم من ألوان مختلفة وبلدان شتى، وأكثر الطلاب الأجانب جدا وعملا وانتفاعا بالمقام في أوروبا هم اليابانيون، فيما سمعت، وأكثرهم ترفا وانصرافا إلى اللعب وتضييعا للدرس هم الرومانيون.
أما المصريون فليسوا من خير الطلاب ولا من شرهم، لكنهم ممتازون بالتأنق والرشاقة وحسن البزة.
ولا يبدو على محياهم أثر للشحوب؛ فيقول قائلون: إنهم يرفقون بأنفسهم في الدرس رفقا يحفظ عليهم بهجة الراحة. ويقول قائلون: إن سمرة أديمهم تخدع الناظر عن سمات الجد والنصب، وآثار السهر الطويل في المذاكرة والتحصيل.
وكذلك الشأن في طلابنا في مصر نفسها، وكلا التأويلين محتمل في الجميع.
ختمت زيارة الحي اللاتيني بحديقة لكسمبورج، وهي روضة ذلك الحي، فيها جلاله وعليها طابعه؛ الأشجار العتيقة باسقة، فقد اسودت جذوعها، واخضرت أعاليها خضرة مشوبة باصفرار، وانشقت بين صفوفها مسالك تظللها الأغصان المتشابكة، كأنك بينها في سحر يتنفس صاحبه في أعقاب ليل، وكأنك في تجلي الأسحار وفي هدأتها.
وترى التماثيل البديعة في شعرها الصامت، منسجمة في ذلك الإطار البديع، وبين حنايا هذه الظلال تجد فنانا عاكفا على تصويره، ومفكرا مستغرقا في تفكيره، وشاعرا يستنزل الوحي من سماء الشعر، وعاشقا يبث غرامه، ثم تخرج إلى ساحة تبتسم الأنوار فيها والزهر، وتنحدر على درج إلى البركة ذات النافورة، مرتع الأطفال اللاعبين بمراكبهم الصغيرة في أمواجها، ومن حولها دكك متفرقة لمن ليسوا أطفالا.
إن عشرات من الخواطر، والمشاهدات، والمحاضرات العلمية والأدبية والفلسفية نشرتها الصحف والمجلات للأستاذ مصطفى عبد الرازق، وهي لا تزال حتى هذه اللحظة متفرقة مبعثرة، ألا يوجد بين تلامذة مصطفى عبد الرازق وزملائه، من يستطيع جمع هذه الآثار في كتاب؟
إن مثل هذا الكتاب سيضيف إلى مكتبتنا العربية ثروة ثقافية طائلة، ورصيدا كبيرا من الفن والجمال.
إحسان عبد القدوس
अज्ञात पृष्ठ