وهو صاحب الكلمة المعروفة: «أعرف قضاة حكموا بالظلم، ليشتهروا بين الناس بالعدل!»
هذه الآراء كانت كفيلة في تلك الأيام، أن تسوقه إلى المحاكمة، أو تقصيه عن مركز القاضي، ولكنها لم تنل من مكانة قاسم أمين؛ لأن إيمان الرأي العام بنزاهة قاسم، وعمق تفكيره، وإخلاصه في رأيه، كان أقوى من غضب الرأي العام نفسه على ما يرى في هذه الآراء من شذوذ وجنوح عن المألوف.
وقد فكر جماعة من المفكرين في إنشاء جامعة مصرية، وكان بينهم زعماء معروفون، وأصحاب نفوذ سياسي، وخطباء يلهبون مشاعر الجماهير بالعبارة الرنانة أو الكلمة الساحرة مثل سعد زغلول، وكان قاسم أمين واحدا من هؤلاء المفكرين، ولكنه لم يكن زعيما، أو سياسيا، أو خطيبا، ومع ذلك تولى مهمة إقناع الناس بالفكرة.
كان يطوف بالأقاليم، ويعقد الاجتماعات، ويشرح الهدف من إنشاء تعليم جامعي، فنظام التعليم القائم لم يكن يهدف إلى رفع مستوى العقل، وتحرير الفكر من ربقة الجهالة، وإنما كان هدفه ملء الوظائف الحكومية بأصحاب مؤهلات خالية من الثقافة العلمية! وكان من يشغل وظيفة ينقطع عن متابعة الدرس والبحث، ويتفرغ لمتابعة الترقي من درجة إلى درجة!
وكان قاسم أمين وزملاؤه يرون أن التعليم لا ينبغي أن يكون وسيلة لوظيفة، وإنما يجب أن يكون وسيلة وغاية للإنسان، وفي ذلك يقول: «نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر وسيلة لمزاولة صناعة، أو الالتحاق بوظيفة، بل نطمع في أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبا للحقيقة، وشوقا إلى اكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلم للتعلم، نود أن نرى من أبناء مصر - كما نرى في البلاد الأخرى - عالما يحيط بكل العلم الإنساني، واختصاصيا أتقن فرعا مخصوصا من العلم، ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به، وفيلسوفا اكتسب شهرة عامة، وكاتبا ذاع صيته في العالم، أمثال هؤلاء هم قادة الرأي عند الأمم الأخرى، والمرشدون إلى طريق نجاحها، والمدبرون لحركة تقدمها.
إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم، هو عيب عظيم يجب أن نفكر في إزالته، وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا، فأصبحنا ماديين لا نهتم إلا بالنتائج، في جميع أمورنا، حتى في الأشياء التي يجب بطبيعتها أن تكون بعيدة عن الفوائد، كعلاقات الأقارب والأصحاب ...»
ويقول: «إن الارتقاء في الإنسان تابع لإحساسه، وإن أكثر الناس استعدادا للكمال هم أصحاب الإحساس، الذين تهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث، وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغا عظيما، فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء الأشقياء، الذين يتمتعون ويتألمون، أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم، يتنافسون في مصادمة كل صعوبة، من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم، وتوحي إليه بأسرارها فيصير شاعرا بليغا، أو عالما حكيما، أو وليا طاهرا كريما!»
ثم يقول: «ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببا في ظهور شبيبة هذا الجيل وما يليه على أحسن مثال.»
بهذا الوضوح، وهذا الفهم العميق، وهذا الاقتناع بالفكرة، استطاع قاسم أمين أن يقنع الشعب، بوجوب إنشاء تعليم جامعي، ولم يكن قاسم أمين خطيب جماهير، ولكنه كان أستاذا محاضرا، يستخدم المنطق والنظريات، ويعبر بأسلوب سهل متحرر من الركاكة والاعتماد على انتفاخ اللفظ وفراغه من أي معنى، وكان صوته المدوي لا ينطلق من حنجرته، ولكن ينطلق من نبض أفكاره ومعانيه.
وقد سجل الدكتور محمد حسين هيكل باشا في كتابه «تراجم مصرية وغربية»، أن قاسم أمين ظل عاملا مع أصحابه مجدا، يستنهض الهمم ويجمع الأموال، ويهيئ كل أسباب نجاح الجامعة، وأنه بين فكرته عنها في خطاب ألقاه بمنزل المغفور له حسن باشا زايد بالمنوفية لمناسبة وقفه خمسين فدانا للجامعة، فماذا قال قاسم أمين عن هذا التبرع أو هذه الأريحية؟ هل خلع على صاحبها صفات الكرم والسخاء التي كان الناس يخلعونها على من يتبرع بخمسة جنيهات لمشروع خيري؟ كلا، ولكنه قال: «إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرا ولا تعلن عن نفسها، عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم وخدموا بلادهم، وحاربوا الأمم، وفتحوا البلاد، ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم، فيحسن بنا أن نقتدي بهم، فنهجر العقول، ونعتمد على العمل.»
अज्ञात पृष्ठ