आधुनिक युग में सुधार के नेता
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
शैलियों
فكان من ذلك كله حركة علمية شعبية ساعدت على النهضة المصرية.
وأعانه على نجاحه في خططه ما كان يلقي من عطف وتشجيع من الخديوي إسماعيل، فهو يقر مقترحاته ويبذل المال لتنفيذ مشروعاته.
وناحية أخرى لها قيمتها في حياة علي باشا مبارك، وهي مجهوده الكبير في التأليف والتشجيع عليه، فقد نهضت البلاد في التعليم كما بينا، فكان لا بد من حركة في التأليف والترجمة تسايرها، وقد قام بقسط وافر في هذا الباب الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقام علي باشا مبارك بنصيبه الوافر أيضا، فألف في مهنته الخاصة، وهي الهندسة، كتبا للطلبة، وألف كتبا أخرى في الثقافة العامة أهمها خططه لمصر المسماة «بالخطط التوفيقية» يصف فيها القاهرة وحاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها كما يصف مدن مصر وقرأها مرتبة على حروف الهجاء. وإذا ذكر قرية ذكر ترجمة من نبغ منها أو كانت له شهرة في ناحية ما، وذكر في ذلك كله أقوال المتقدمين والمتأخرين، فكان كتابا جليل النفع عظيم القدر أكمل به خطط المقريزي وما حدث للقاهرة والمدن والقرى المصرية من تغيير بعده إلى يوم تأليفه، ووقع الكتاب في عشرين جزءا أو خمسة مجلدات. كما ألف كتابا سماه «علم الدين» وهو قصة لشيخ تربي في الأزهر وتتلمذ له مستشرق إنجليزي تعلم منه اللغة العربية ودعاه الإنجليزي أن يزور معه إنجلترا فلبى الدعوة، وكانا كلما مرا على شيء من القاهرة إلى الإسكندرية سأل الإنجليزي الشيخ علم الدين فأجابه، وبعد الإسكندرية انقلب الشيخ تلميذا والإنجليزي معلما، يسأل الشيخ عن كل ما يجهل فيجيب الإنجليزي، وملأ الكتاب بمعلومات قيمة عن الشرق والغرب ومظاهر الحضارة الأوروبية، وكان غرضه من هذا الكتاب تفتيح أذهان الشرق لما في الغرب، فالشيخ علم الدين في أول القصة رجل أزهري جامد لا يعرف شيئا من شئون الدنيا، فلما ساح في أوربا اتسع ذهنه ومرن عقله ورقيت أحكامه على الأشياء، ورأيناه يحضر دار التمثيل وينظر إلى المسرح بالمنظار. ومن طرائف علي مبارك أنه وهو وزير المعارف الخطير لم يستنكف أن ينظر إلى الأطفال في بدء تعلمهم للقراءة والكتابة ولم تعجبه طريقة تعليمهم، فأخذ نفسه بتأليف كتاب من جزأين، يعلم في أولهما حروف الهجاء وكيف تتركب، ويضع ثانيهما للتمرين على المطالعة السهلة في موضوعات مفيدة، إلى غير ذلك من الكتب، كما كان يستحث العلماء على التأليف في الموضوعات النافعة على أسلوب جديد يقرب المعلومات إلى الأذهان، وكان من أكبر من ساعده في تحقيق أغراضه في التأليف عبد الله باشا فكري.
وكان بيته في الحلمية الجديدة ناديا عجيب الشأن، يجتمع فيه كل ليلة طلبة المدارس وأساتذتها من كل نوع حتى تمتلئ بهم الدار، وينتقل هو بينهم يخاطب كل جماعة منهم في شأن من شئون العلم يتناسب معهم، فيخاطب الطلبة في حالة مدارسهم ومقدار تحصيلهم للدرس، وما يتكون منه من نظم التدريس وما يقترحون لإصلاحها، ويخاطب المدرسين في تدريسهم وانتقاداته عليهم، ويستحثهم على التأليف في الموضوعات التي يقترحها، وما ينبغي أن تكون عليه الكتب في أيدي الطلبة، ويلتمس الفرص ليشرح لهم الأخطاء التي يقع فيها الطلبة ويقع فيها الأساتذة وتأخر الشرق وأسباب تأخره تقدم الغرب وأسباب تقدمه إلى غير ذلك. حدثني عبد العزيز باشا فهمي، قال: «كنت يوما في بيت علي باشا مبارك، والناس تموج في بيته، الحجر مزدحمة بالزوار، وعلي باشا يتصدر حجرة منها، فحضر مصطفى باشا رياض وكان ناظر النظار إذ ذاك، فأخذ يخوض في الناس حتى وصل إلى علي باشا مبارك فقال له: «ما هذا يا باشا؟» فقال له: «يا دولة الرئيس أنا في بلد يهاب الناس فيه أن يخاطبوا معاون إدارة أو مأمور مركز أو أي موظف حكومي، فإذا نحن جرأناهم علينا وعلينا وخاطبناهم، وخاطبونا، وأمكنهم أن يخاطبوا الموظفين في غير هيبة، وتعودوا أن يطالبوا بحقوقهم، وقالوا: أنا نجالس الناظر (الوزير) ونخاطبه، فلم لا نخاطب من هو أقل منه منزلة؟».
لم تكن خطط علي باشا مبارك في التعليم في المثل الأعلى، ولا كانت خالية من العيوب، ولكنها كانت خطوة مباركة صالحة لأن ترقى مع الزمان، ويصلح ما ظهر فيها عند التنفيذ من أخطاء، كما حدث ذلك فعلا في وزارة رياض باشا من بعد، ولكن ساءت الحال في مصر بتدخل الأجنبي بدعوى حماية الدين، كما أسلفنا في ترجمة جمال الدين الأفغاني وجاءت الثورة العرابية وأعقبها الاحتلال الإنجليزي، فقبض الإنجليز على التعليم، وصبغوه الصبغة التي يريدونها.
لم يشترك علي مبارك في الثورة العرابية؛ إذ كان مزاجه ليس مزاجا ثوريا بحكم منشئه وتربيته - عكس مزاج الشيخ جمال الدين، الثوري العنيف - وكان مبدؤه الطاعة التامة لولي الأمر، مهما كان. أطاع عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وخدمهم في إخلاص، ولعله - كبعض المصلحين - يرى إن إصلاح التعليم خير أنواع الإصلاح، بل هو خير من الإصلاح السياسي ، ويرى أن الإصلاح السياسي ما لم يرتكز على الإصلاح التعليمي فلا بقاء له ولا قيمة - لذلك لا نرى له إصبعا ما في الثورة العرابية. ولقد اتهم كثير من عقلاء الأمة بمشايعة عرابي باشا، كعبد الله باشا فكري والشيخ محمد عبده، وغضب عليهما الخديوي توفيق، ولكن لم يتهم علي باشا مبارك في شيء ما، ولم يفقد رضا توفيق باشا وعطفه، وإنما فقد رضا عرابي باشا وحزبه، وكل ما أثر عنه في الثورة العرابية أنه تبرع يوما بشيء من ماله لهذه الحركة، ولكن لعل ذلك كان تحت تأثير ضغط شديد عليه من الشبان المتحمسين. وزاده إيمانا بحياده أنه لم يكن يؤمن بنجاح الثورة العرابية، على حسب ما كان يرى من ظروفه المحيطة به التي تمكنه من الاطلاع على شئون مصر والشرق والغرب. وقد روى الشيخ محمد عبده أنه حضر مجلسا في بيت علي باشا مبارك كان فيه سلطان باشا - وقد أخذ سلطان باشا يشيد بذكره قوة الجيش المصري وما يمكن من زيادة عدده - فرد عليه علي باشا مبارك بأن حالة البلاد المالية لا تتحمل هذه الحرب ولا تساعد على النجاح فيها، ثم رأيناه في أثناء الثورة يذهب إلى بلده ويعمل في إصلاح أرضه، وعلى كل حال فالإنسان مطالب أن يعمل وفق ما يهديه إليه عقله وما يتناسب ومزاجه، وقد كان مزاج علي مبارك مزاجه هادئا ناسبه أن يوجه أكثر قوته لإصلاح التعليم، ففعل. وربما كان أساس نجاحه شدة غيرته وقوة إخلاصه وعمق رغبته في خدمة وطنه.
وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر ألفت وزارة مصطفى رياض باشا وعهد فيها إلى علي مبارك في نظارة المعارف، ولكن ما أبعد الفرق بين الحالين، وما أشد الاختلاف بين العهدين - لقد كان في العهد الأول قبل الاحتلال حرا طليقا يفكر كما يشاء ويفعل ما يشاء ويدبر المال لمشروعاته كما يشاء، لا يقيده في ذلك كله إلا عرض العهد فليس حرا ولا طليقا ولا يفكر إلا إذا سمح له المستشار الإنجليزي بالتفكير، ولا يفعل إلا في الدائرة المحددة التي خطها المحتلون، وقد عبر هو عن ضيق صدره في ذلك بأسلوبه الناعم الهادئ، إذ يقول في هذه الحقبة: «وأنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح، بقدر الإمكان، والله المستعان».
اصطدم بعد ذلك بالقيود التي قيدت بها المصالح الحكومية، وخاصة القيود المالية التي وضعها مستشار المالية ربما كان علي باشا مبارك والشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الله باشا فكري الفرسان الثلاثة في ميدان العلم في مصر في ذلك العصر، وأركان النهضة العلمية المصرية، ولكن كان لكل طابع ولكل ميزة، فعلي باشا مبارك يهتم بالمسائل الكلية في سياسة التعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها، وإذا نظر إلى الجزئيات فلتطبيق الكليات عليها، والشيخ رفاعة ينظر إلى المسائل الجزئية ويعني بإصلاحها وتنفيذها، فإذا عهد إليه في إدارة مدرسة بث الروح فيها، ثم هو يؤلف ويترجم ويبعث تلاميذه على التأليف والترجمة، وبهذا أمد البلاد هو وتلاميذه بطائفة من الكتب النافعة كانت عماد النهضة، وعبد الله باشا فكري كاتب شاعر أديب مؤلف له قيمته في معرفة ما يناسب عصره من التأليف فيؤلف فيه، كان تلاميذ المدارس يعلمون الأدب من مقامات الحريري والنحو من كتاب شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فألف كتبه على نمط جديد، وكان تلاميذ المدارس الابتدائية، لا يجدون ما يطالعونه فألف لهم (الفوائد الفكرية) ثم كان أكبر عون لعلي باشا مبارك فيما ألف من كتب - فلكل من الفرسان الثلاثة مزية، ولكل فضل. رحمهم الله جميعا.
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
إن كان يستحق الإعجاب من نبغ - والظروف له مواتية - من أسرة عريقة في المجد أو الغنى أو الجاه ونحو ذلك مما ييسر للأبناء أن يتعلموا، ثم يشقوا لهم طريق الحياة وطريق المجد فأولى بالإعجاب من ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب ولا غنى ولا جاه، بل ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتى من أن يجد له وقت فراغ يثقف فيه نفسه.
अज्ञात पृष्ठ