आधुनिक युग में सुधार के नेता
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
शैलियों
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
«برنبال» الجديدة قرية صغيرة كسائر قرى الفلاحين بمصر تابعة لمركز (دكرنس) من مديرية (الدقهلية) تقع على البحر الصغير، بها أربع حارات، ومرافقها الاجتماعية. مسجد للصلاة، وكتاب لتعليم القرآن، ودكان لعطار، ومعملان لتفريخ الدجاج، وأربعة أنوال يدوية لنسيج الصوف، ودكانان لصبغ الثياب البيضاء صبغة زرقاء، وضريحان لوليين يستشفي بهما الأهالي لقضاء الحوائج، وأربعة مضايف لكل حارة مضيفة، تقام فيها مآتم الحارة وأفراحها واحتفالاتها في الأعياد والمواسم، وباعة صغار لبيع الخضر وما إليها، وبعض صناع يقومون بصناعة ساذجة كنجار للسواقي ونوتي للمراكب تجري في البحر الصغير ، وفي الجهة القبلية منها جبانة لدفن الموتى، وحولها الأراضي الزراعية ليس فيها من الأشجار إلا نخلتان.
يسكن حارة من حاراتها أسرة تتكون من نحو مائتي شخص يعيش أفرادها كسائر الفلاحين ببهائمهم ودواجنهم وأدواتهم الزراعية، وعلى رأسهم الشيخ مبارك، وكان يقوم بكل الشئون الدينية في القرية، فهو إمام مسجدها وخطيبه وهو (مأذونها) يعقد عقود زواجها، ويسجل صيغ طلاقها، ويستفتي في المسائل الدينية تعرض لأهلها، ورث ذلك عن أبيه وجده حتى سميت الأسرة بأسرة (المشايخ) وتزوج الشيخ أكثر من زوجة، رزق منهن أولادا كثيرين، إحداهن رزقت سبع بنات واحدا سماه عليا، وكلهم يعيش على الدخل التافه والرزق القليل.
في هذه البيئة ولد علي مبارك، ووقعت عينه أول ما وقعت على هذه المشاهد الطبيعية والاجتماعية. ولعله يوم ولد بشر به أبوه وسلم له في يده ليبارك عليه وأذن في أذنه أمل فيه أن يكون حلقة في سلسلة (المشايخ) يرث الإمامة والخطابة والإفتاء لأهل القرية عن أبيه، كما ورثها أبوه عن جده وما ورثها جده الأدنى عن جده الأعلى. ولو جرت الأمور مجراها المألوف لكان هذا، فما ظنك بطفل فقير من أسرة فقيرة في (برنبال) البعيدة عن مراكز المدينة والحضارة إلا أن يسعده الحظ فيكون إمام مسجد؟! ولكن للقدر شئونه ولله تصرفه.
على هذا المنهج أرسله والده إلى كتاب (برنبال) وفقيهه إذ ذاك رجل أعمى شديد عنيف، وافق اسمه مسماه، فكان يسمى أبا عسر، كان له الفضل في أن يكره (عليا) في التعليم والحفظ.
وشاء الله أن تنكب هذه الأسرة جميعها بما كانت تنكب به أسر كثيرة في البلاد إذ ذاك، فكثيرا ما كان يهمل الفلاحون زراعة أرضهم شعورا منهم بأن غلتهم ليست لهم، وإنما هي مطمع الحكام: يطمع الحاكم الأعلى في الحاكم الأدنى ويطمع الحاكم الأدنى فيمن دونه، وهكذا حتى يصل إلى الفلاح، فإذا عجزت غلة الأرض عن أداء الضريبة أخذت الأرض منه وأعطيت لغيره، وكان هذا العطاء مصيبة كبرى على من يعطى لشعوره بأنه يمط ليسخر، يسخر في الأرض وزراعتها لتكون غلتها لغيره، ولذلك كانوا يعبرون عن إعطاء هذه الأرض تعبيرا صحيحا صادقا؛ إذ يقولون (رميت عليه الأرض) وهذا ما أصاب أسرة الشيخ مبارك ، فقد رميت عليها أرض، فلما جاء المصلحون يحصلون الضرائب لم تكف الزراعة فباعوا بهائمهم وأثاث منازلهم، ثم رأوا أن لا بد بعد ذلك أن يهجروا البلد وتنقل الشيخ مبارك وأسرته في البلاد إلى أن نزل على عرب في (الشرقية) يسكنون الخيام، يسمون عرب (السماعنة) فأقاموا له خيمة مثل خيامهم، ورأوا فيه ما يسد مطالبهم الدينية، فكان مرجعهم في الفتيا وإمامهم في الصلاة، كما كان في بلدته (برنبال). فلما استقر به الحال فرغ للتفكير في تعليم علي، فأرسله إلى كتاب في قرية قريبة من الخيام، ولكن لم يكن يتيسر له أن يذهب كل يوم إلى الكتاب ويعود فكان يسكن مع سيدنا ويزور أباه مرة كل يوم جمعة. ولم يكن حال هذا الفقيه خيرا من حال (أبي العسر) وإن كان اسمه (أبا الخضر) فكان علي يجتهد في إرشائه بما يستطيع أن يحمله إليه كل أسبوع ليخفف عنه. فلما توالى عليه العنف كره الكتاب بتاتا بعد أن كان قد حفظ القرآن.
هنا حدثت الأزمة، فعلي لا يريد الكتاب بتاتا. وماذا لقي منه إلا الضرب؟ ثم ماذا يكون مصيره لو نجح في الكتاب؟ أليس إلا أن يكون كأبيه إمام مسجد ومفتي قرية؟ وهذا مطلب لا يقنعه ولا يرضيه، وأبوه مصمم على الكتاب. واصطدمت الإرادتان فغلبت إرادة علي.
ولكن أفهمه أبوه وأخوته أنه لابد أن يتعلم شيئا ما، وكان إذ ذاك في البلاد طبقة من الكتاب الصغار يكتبون للناس في مطالبهم وأغراضهم أو يمسحون
1
الأرض لهم، ففضل أن يكون صبيا لأحد هؤلاء ورضى أبوه بهذا الحل، فهو يلتحق تلميذا لكاتب من هؤلاء ويتنقل بينهم ولم يكن حظه معهم خيرا من حظه في الكتاب، فالضرب هو الضرب والبؤس هو البؤس. ومنهم من يأجره أجرا قليلا، ثم يأكل عليه أجره، ومنهم من يسأله: كم الواحد في الواحد؟ فيقول: اثنان. فيرميه بأداة أمامه على رأسه فيشجه . فهذه أيضا حالة لا تنفع. فيهرب من أمه وأبيه لضغطهما عليه في العمل بما لا يرضيه ويهيم على وجهه متنقلا في البلاد ، وأبوه يلاحقه، ويتعرض أثناء ذلك للإصابة بالكوليرا أحيانا وللسجن بسبب وشاية أحيانا. وأخيرا شاء القدر أن يسعى له السجان ليكون كاتبا صغيرا عند مأمور كبير، وشفع له في ذلك حسن خلقه وجودة خطه، كان هذا الموظف الكبير «عنبر أفندي» مأمور زراعة القطن بأبي كبير، فلما وقع عليه نظر علي مبارك وقع في حيرة شديدة، إذ رآه أسود حبشيا، وعهده بالحاكم أن يكون أبيض تركيا، فما الذي أهله لهذا المنصب الكبير. وكبار الناس يخضعون له ويمتثلون أمره ويجلون قدره؟ وإذا كان هذا الأسود قد بلغ هذا القدر.. فلم لا أبلغه وأنا على الأقل وسط بين الحبشي والتركي؟ ولكن ما السر في بلوغ هذا الأسود هذا المنصب؟ لغز صعب عليه حله، وكلما سأل عنه أحدا أجابه إجابة لا تقنعه، وقد سأل أباه يوما - بعد أن رضى عنه - عن السبب في ذلك، فأجابه بالقضاء والقدر، وأن الله إذا أراد شيئا فلا راد لمشيئته، وقد شاء أن يكون هذا العبد الأسود حاكما مطاعا فكان، ولكن هذا أيضا لم يقنعه.
अज्ञात पृष्ठ