تخفي مجيدة أصابعها تحت الغطاء، تغمض عينيها لتنام، لكن نور اللمبة الكهربائية بجوار السرير يكشف الغرفة الواسعة. جدرانها منقوشة برسوم وردية، دولاب ملابسها في الركن لونه وردي، مكتبها الصغير فوقه كتب المدرسة والكراريس وأقلام ملونة، كشكول كبير غلافه وردي تكتب فيه أحلامها، مائدة صغيرة فوقها مفرش أزرق مرسوم عليه زهور الياسمين بخيوط الكانافاه.
دادا تجلس على السجادة العجمية المزركشة إلى جوار سريرها، تحكي لها القصص قبل أن تنام، ترتدي جلبابا واسعا أدكن اللون، عنقها طويل قوي العضلات، يحمل رأسها الملفوف بطرحة بيضاء، وجهها شاحب نحيف تطل منه العينان، مقلتان سوداوان صغيرتان، داخل بياض واسع تشوبه حمرة البكاء.
حين بلغت مجيدة الخامسة والعشرين من عمرها كانت تمتلك عمودا في مجلة النهضة، تصدر يوم الخميس من كل أسبوع، اقترح أبوها أن يكون عنوان العمود: «أمانة الكلمة». كان عموده في الجريدة اليومية الكبيرة يحمل عنوان: «أمانة العهد»، يضغط على حروفها الخمسة، حرفا حرفا، كأنما يخشى أن يفلت حرف أو تفلت الكلمة كلها، تتبخر في الهواء، في اللاشيء.
منذ الثامنة من عمرها كرهت مجيدة الكتابة، كانت مثل جسدها القصير الممتلئ مفروضة عليها، كانت واجبا من واجبات المدرسة والبيت، مثل الصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان، كانت مثل أصابع يديها وقدميها موروثة عن أمها وأبيها، لا تستطيع الخلاص منها.
فوق المكتب في غرفتها يرقد الكشكول السمين الممتلئ بالصفحات البيضاء، أبيض وسمين وغليظ مثل جسدها، صفحات خالية خاوية ترمقها بسخرية. منذ الطفولة حتى الشباب والكهولة ظلت هذه الصفحات البيضاء ترمقها بسخرية، صوت يهمس في أذنها له فحيح إبليس، أو ربما صوت الله يقول لها: أنت يا مجيدة لست موهوبة، أنا يا مجيدة الذي أعطي الناس الموهبة، وقد أعطيتها لزينة بنت زينات؛ لأني حرمتها من الأب والأم.
كان أبوها يكتب في عموده بالجريدة أن الله عادل، وأن رئيس الدولة يحكم بالعدل بين الناس في مصر، قد يحرم الله طفلا من الأهل أو المال، لكنه يمنحه نعمة الذكاء أو موهبة الموسيقى، أو يغرس في قلبه حب الله والوطن، قد يكون الإنسان فقيرا لكنه غني النفس.
كانت أمها تكتب في النقد الأدبي، تلقي المحاضرات في الجامعة عن الأدب والشعر والروايات والمسرح وأفلام السينما. يرسل إليها الناس كل يوم رسائل في البريد طرودا من الكتب والمجلات وشرائط من الموسيقى والأفلام والحوارات الأدبية في الراديو والتلفزيون. يتنافس الكتاب والكاتبات على نيل رضاها، يرسلون إليها الهدايا. يمكنها بمقال واحد في مجلة النقد الأدبي أن تخرج كاتبا من الظلمة إلى النور، وتنتشل كاتبة مغمورة من العدم إلى الضوء ونجوم الفن والأدب.
لم تكن لها مكانة زوجها السياسية والصحفية، لكن مكانتها الأدبية والفنية كانت في القمة، تصلها الدعوات لحضور الاجتماعات مع الرئيس والوزراء والسفراء ، والمؤتمرات الأدبية والفنية خارج البلاد.
في أعماقها لم ترغب بدور الدامهيري أن تكون ناقدة أدبية. ترى أن الناقد الأدبي أقل قيمة من الكاتب الروائي أو الشاعر أو الكاتب المسرحي أو السينمائي. تهمس في أذن صديقتها صفاء الظبي زميلتها في الجامعة: «مهنة النقد الأدبي متطفلة على الأدب الحقيقي والفن، مثل الديدان الشريطية. نحن نقاد الأدب لسنا إلا مبدعين فاشلين، نعوض عن فشلنا بنقد أعمال الآخرين. نحن عاديون، ميديوكر مثل بقية البشر، ليس عندنا موهبة، نحاول الوصول إلى الأضواء عن طريق تلميع إبداع الآخرين. نحن مثل ماسحي الأحذية يا صافي.»
تنادي صديقتها صفاء الظبي بكلمة: «صافي.» - أقول لك يا صافي بصراحة لا أقولها لأحد، لا أشعر وأنا أكتب مقالا نقديا بأي لذة أو فخر، بل أشعر بالمهانة؛ لأني ألمع حذاء شخص آخر أكثر مني موهبة.
अज्ञात पृष्ठ