أصابتها الدهشة في الحادية عشرة من عمرها حين اكتشفت أن للشيطان شاربا ولحية مثل العجائز، يكاد يشبه جدها لأبيها أو لأمها، أو الرجل العجوز في البيت المجاور، أو في فيلم «غرام الشيوخ» الذي رأته العام الماضي في السينما.
لكن النوم غلبها وهو يدغدغ بإصبعه بطن قدمها. كتمت السر عن أبيها وأمها، أصبحت شريكة الشيطان في الإثم، تتظاهر بالنوم حتى يستمر في المداعبة، تخفي رأسها تحت الوسادة، تكتم أنفاسها، تتظاهر بالموت، يشجعه موتها على الاستمرار والصعود إلى البؤرة المدفونة في ثنايا اللحم داخل عمق الأحشاء، تغمرها لذة خالية من الإثم؛ لأن الموت أدركها قبل حدوث اللذة.
غاب الشيطان ذات ليلة، امتد غيابه طويلا. تصورت بدور أن الله عاقبه بالموت، ثم سمعت من أمها وأبيها أنه سافر إلى لندن لإجراء عملية البروستاتة. رنت الكلمة مؤنثة في أذنها، لم تعرف أين يمكن أن تكون هذه البروستاتة في جسد إبليس؟ ولماذا يخلق الله عضوا مؤنثا في جسد الذكر؟ لم يعد إبليس من لندن، ربما مات هناك. طردت بدور الشيطان من أحلامها، طردته من النوم واليقظة، مضت ثلاث سنوات وأصبحت في الحادية عشرة من عمرها، ضاع إبليس من ذاكرتها تماما. إلا أنه ظل يعيش في بطن قدمها اليسرى، يدغدغها حتى تروح في النوم، يحكي لها قصة الشاطر حسن والغولة، في الصباح تتوضأ وتصلي بين يدي الله. لم يعد إبليس يقف عن يسارها، أصبحت فتاة ناضجة طاهرة مغسولة من الإثم.
ثم جاء يوم المظاهرة الكبيرة، كانت بدور حصلت على الليسانس، فتاة مثالية يذوب في عقلها وجسدها وروحها حب الله والوطن، لكن قلبها ينوء بالعبء. آثار إصبع الشيطان فوق جسدها تشبه الحب، أي عبء أن يحتل الثلاثة مساحة واحدة من قلبها «الله والوطن وإبليس»؟!
يوم المظاهرة الكبرى وجدت بدور نفسها بين آلاف الأجساد، نساء ورجال وشباب وأطفال ، من الحواري والأزقة والشوارع الكبيرة، من بولاق وإمبابة وباب الشعرية، من الزمالك وجاردن ستي والمعادي وحلوان. عمال وموظفون وفلاحون وطلاب وطالبات المدارس والجامعات، يسيرون بخطوة واحدة، أقدام حافية مشققة، وأحذية لامعة من الجلد المتين، وشباشب وصنادل.
كانت بدور تمشي بينهم تدب بحذائها الجلدي على الأرض بخطوات قوية، تستمد قوتها من قوى الآلاف أو الملايين، يهتفون في نفس واحد: «يسقط الملك، تحيا مصر حرة.» كلمة «حرة» تلتصق بحلقها كالغصة، جسدها رغم الحركة تحوطه القيود، تحرك ذراعيها وساقيها لتكسرها دون جدوى، تهتف بصوت يشبه الصراخ، صرخاتها المكتومة تذوب في أصوات الجموع، دموعها تذوب في عرقها، ثوبها يلتصق بجسدها تحت البلوفر الأزرق. إلى جوارها يمشي نسيم، جسمه طويل ممشوق، يدب فوق الأرض بخطوة قوية ثابتة، عيناه الزرقاوان شاخصتان إلى الأمام، لم ينظر ناحيتها مرة واحدة، هي ترمقه بطرف عينها طول الوقت، أنفه من الجانب شامخ مرفوع، شفتاه مزمومتان، يرتدي بلوفرا من الصوف الخشن، رصاصي اللون منحول من المرفق، ياقة قميصه بيضاء: غير مكوية، حذاؤه قديم يغطيه التراب، في كعبه قطعة حديد على شكل حدوة الحصان، شعر رأسه خشن أكرت، يحتك في أحلامها بوجهها الناعم البشرة.
تنجذب بدور إلى هذا النوع من الرجال، فيه ذكورة وخشونة، لا يخاف الموت من أجل الله والوطن. ليس من نوع ابن عمها «أحمد» يخاف من صرصور أو فأر أو ضفدعة تقفز في الحديقة، أصابعه رقيقة ناعمة تشبه أصابعها، قامته قصيرة مثل أبيه وعمه، اللواء أحمد الدامهيري. ورث عنهما الرأس المربع الشكل، والذقن المربع تحت شفتين رفيعتين، الشفة العليا أكثر نحافة من الشفة السفلى، يضم شفتيه إلى الأمام حين يستغرق في التفكير، الحركة ذاتها الموروثة عن أبيه وجده الشيخ الدامهيري، كان وكيلا أو نائب الوكيل لجامع الأزهر الشريف.
بدور التقت نسيم في السنة الأولى بالجامعة، منذ تلاقت عيونهما انتفض شيء في أعماقها، شيء خفي دفين في الأحشاء. لم يكن زميلا لها في كلية الآداب، كان يأتي إلى الجامعة أيام المظاهرات، تلمحه من بعيد يمشي، يدق الشيء تحت ضلوعها في اضطراب، يتأرجح جسمها القصير السمين فوق كعبيها الرفيعين، تترنح قليلا في مشيتها، تضغط بيدها على حزام حقيبتها المعلق فوق كتفها، تمسك به، تستعيد توازنها. يمر بها دون أن ينظر إليها، دون أن يبتسم لها كما يفعل الزملاء، قد يحرك رأسه علامة التحية، ثم يمضي في طريقه لا ينظر إلى الخلف. كانت هي تنظر خلفها لتراه من ظهره. عظامه مستقيمة، عضلاته مشدودة، ليس في جسده لحم، ذراعاه تتحركان وهو يمشي مع حركة ساقيه، يشق الهواء بجسمه الطويل الصلب كالرمح.
مضى عامان وهي تراه في أحلامها. في العام الثالث بدأ الحديث بينهما، هي التي بدأت حين رأته جالسا في أحد الاجتماعات، كان المقعد إلى جواره خاليا، جلست بعد أن ابتسمت في وجهه وقالت: صباح الخير يا نسيم. ثم تكرر اللقاء بينهما داخل الجامعة، أو في حديقة الأورمان بجوار الجامعة، يجلسان معا على الدكة الخشبية يتحدثان، يتبادلان الكتب الثورية. كانت بدور تنجذب في أعماقها للثورة للتمرد على كل شيء في حياتها، بما في ذلك الأب والأم والعم والجد، وربما الله أيضا وإبليس. منذ السابعة من عمرها كانت تخاف الله، تغلغل الخوف إلى حد الكره، لم تملك الشجاعة أن تعترف لنفسها بما يدور في خيالها، وما يحدث لها في أحلامها، منذ طفولتها اقترفت آثاما كثيرة أثناء النوم.
وهي تمشي في المظاهرة إلى جوارها نسيم كانت تلمحه من الجانب، ملامح وجهه كأنما منحوتة في الصخر، ملامح حجرية صلبة حادة، أنفه يشق الهواء كحد السيف، جسمه الطويل النحيف كأنما مصنوع من مادة غير اللحم، يحمله خفيفا فوق قدميه ويمشي، كأنما ليس له ثقل.
अज्ञात पृष्ठ