وغادر زيتون المنزل وسار على قدميه إلى حيث يجرى العمل في منزل آخر قريب. كانت الأمور تسير كثيرا على هذا المنوال؛ عدة أعمال قريبة بعضها من بعض، وكان العملاء يدهشون كثيرا للتعاقد مع متعهد طلاء أو مقاول يستطيعون الوثوق به وتزكيته لغيرهم، ويدهشون كيف يتسنى لزيتون أن ينجز نصف دستة أعمال في أي حي من الأحياء، من خلال تزكية العملاء له وبتتابع سريع.
وكان هذا المنزل الذي لم يتوقف عن العمل فيه سنوات طويلة، يثير الدهشة، كان يقع عبر الشارع في مواجهة منزل الكاتبة آن رايس، ولم يكن قد قرأ ما تكتبه ولكن كاثي قرأته، كانت كاثي تقرأ كل شيء، كان منزلا فخما فاخرا يضارع أمثاله في نيو أورلينز، كانت له سقوف عالية، وبه درج رائع يتلوى هابطا إلى البهو، وكل ما فيه نحته النحاتون بأيديهم، بحيث تتميز كل غرفة بطابع خاص بها. وكان زيتون قد قام بطلاء معظم الغرف أكثر من مرة، ولم يكن يبدو أن أصحابه يريدون التوقف، كان يحب التواجد في هذا المنزل، حيث يتأمل فن الصنعة بإعجاب، والعناية الفائقة بأدق التفاصيل والزخارف وأغربها؛ إذ رسمت لوحة جدارية فوق المدفأة، وركبت زخارف حديدية يختلف بعضها عن بعض في كل شرفة. كان هذا اللون من الاهتمام الرومانسي المتعمد والطليق بالجمال - وهو جمال سرعان ما يتأثر ويتغير ويتطلب الرعاية الدائمة - هو الذي جعل هذه المدينة تختلف اختلافا شاسعا عن غيرها، وجعلها فرصة إبداع لا نظير له أمام المهندس المعماري.
ودخل المنزل فصحح وضع الستار الهابط في البهو الأمامي، واتجه إلى مؤخرة المنزل، وأطل بنظره على جورجي، النجار البلغاري، الذي كان يقوم بتثبيت بعض معدات السباكة الجديدة بالقرب من المطبخ، كان جورجي عاملا ممتازا، في نحو الستين من عمره، واسع الصدر، لا يكل ولا يتعب، ولكن زيتون كان يعرف كيف يتحاشى دفعه إلى الحديث؛ إذ إنك إن جعلته يتحدث فسوف تصغي لحديث لا يتوقف على مدى عشرين دقيقة عن الاتحاد السوفييتي السابق، والمنازل المقامة على ساحل البحر في بلغاريا، وشتى رحلاته الطويلة في البلاد وهو يقود السيارة التي يعيش فيها - وتشبه الحافلة المزودة بكل ما يحتاج إليه المنزل المتنقل - مع زوجته ألبينا التي رحلت عن هذا العالم منذ عدة سنوات وغدا يفتقدها بشدة.
وركب زيتون شاحنته وأدار الراديو «فهاجمه» المزيد من إنذاراته بشأن هذه العاصفة التي تسمى كاترينا. وكانت قد تشكلت بالقرب من جزر البهاما منذ يومين، وبعثرت القوارب الراسية كأنها لعب أطفال. وانتبه زيتون لما يقال ولكنه لم يجده ذا بال، ما دامت الرياح لن تكون لها علاقة به قبل عدة أيام.
واتجه إلى متحف برسبتير في ميدان جاكسون، حيث بعض عماله يقومون بإجراء ترميمات دقيقة في ذلك المبنى الذي بلغ عمره مائتي عام، وكان منذ زمن بعيد مبنى محكمة، ولكنه أصبح الآن يضم مجموعة تحف وآثار فذة للاحتفال بثلاثاء المرفع، كانت المهمة تحظى بالاهتمام الجماهيري، وأراد زيتون إنجازها على خير وجه.
واتصلت كاثي به من المنزل، كان أحد العملاء قد اتصل بها لتوه من حي برودمور، وتتلخص الرسالة في أن عماله كانوا قد أغلقوا أحد الشبابيك بالطلاء ولا بد من إرسال عامل آخر لفتحه بعد أن التصق.
وقال لها: «سأذهب بنفسي.» كان ذلك فيما يتصور أيسر، فليذهب ليقوم بالعمل، من دون إجراء مكالمات أخرى، أو انتظار وصول أحد.
وقالت كاثي: «هل سمعت بالرياح؟ قتلت ثلاثة في فلوريدا حتى الآن.»
وأبدى زيتون استهانته بما سمع قائلا: «لن تضيرنا هذه العاصفة!» •••
كثيرا ما كانت كاثي تتفكه بعناد زيتون، وبرفضه الانصياع لأي قوة طبيعية كانت أم سواها، ولكن زيتون لم يكن يملك تغيير طبعه؛ إذ نشأ في ظل أبيه، البحار الأسطوري الذي واجه سلسلة من الشدائد الملحمية، وكان يتمكن من النجاة دائما بما يشبه المعجزة.
अज्ञात पृष्ठ