وزينب أيضا كانت تعتقد أن ما أصابها من السعال والتحول نتيجة البرد. ولكنهما كانا مخطئين جميعا. إنه داء ينخر في صدر الفتاة أشد وأقوى من كل ما يتصوران.. إنه سل فظيع يناوشها الحياة.
في هاته القرى المصرية حيث الهواء الطلق والشمس الدائمة والحياة الهادئة قل أن يتصور إنسان مرضا كالسل. وغاية ما يصل إليه خيالهم أن يحسبوا المصاب به محسودا من عين خبيثة، أو ناله برد أو نحو ذلك. ويزيدهم بعدا عن تصور هذا المرض ندرته حتى لا يكاد يرى. كما أن ترك المصاب به حتى آخر ساعاته، أو حتى يموت من غير أن يراه طبيب أو يعرف أمره أحد، يزيدهم به جهلا. من أجل هذا لم يتصور حسن، ولم تتصور زينب نفسها، أن ما بها شيء سوى البرد ونظرة خبيثة، فكانا يعزوان ما هي فيه من ضعف ومن نحول إلى حسد حاسد. ومن وقت لآخر كانت أم جازية تبخر زينب، وتضع لها في النار قطعة من الشبة، فتحترق وتتحول إلى شكل آخر يتصورون فيه إنسانا ممن يعرفون، ويعتقدون أنه الحاسد اللعين، ومن أجل أن تبطلا حسده تتفلان عليه، لكن ذلك كله لم يكن يجدي، والمرض الذي وقعت فيه زينب نتيجة أشجانها الطويلة وأحزانها، وبعد أن قضت الليالي الطوال ساهرة بين يدى الألم، واستمر يحل في قواها ويفت في أعصابها ويزيدها ضعفا يوما بعد يوم.
في آخر نهار، وقد كانتا معا، دخل عمي خليل داره وهو مهموم عليه شيء من أثر الحزن، فأسرعت إليه امرأته، تاركة زينب، تسأله عما هنالك. ولما أجابها أن الحاج سعيد شيخ البلد متأخر، وقد يموت هذه الليلة، سرى عنها وعاودها هدوءها أن علمت أن لا شيء يمسهم عن قرب. لكنها لم تنس أن تحسب للمأتم والقروة، وأن ترجع لزينب فتكلمها في هذا الشأن غير منتبهة لصحة زوج ابنها إلا فيما يتعلق بمقدرتها على القيام بالطبخ والخدمة. وفيما هما يتحادثان دخل حسن، وسمع ما تقولان، وأخبرهما أن بعض من قد رأى في الجامع يقول إن الحاج سعيد يرسل آخر أنفاسه.
ولما أتموا العشاء إذا صراخ علا في جو القرية الساكن آتيا من جهة دار شيخ البلد : صريخ متقطع ترسل به امرأته وهي محروقة القلب على فقده. وفي أثناء صراخها عوت الكلاب من أعالي السطوح عواء محزون كأنما تحس هي الأخرى بفراق ذلك الراحل إلى ربه. ثم انقطع الصوت وعرا البلدة صمت الموت، كأنما نشر عزرائيل فوقها جناحه. وتكلم حسن وأهله، وعلى كلامهم أثر الخشوع والخشية، وكأنما ذكروا الساعة التي سيرحلون جميعا فيها.. الساعة التي يذرون فيها ظهر الأرض ليسكنوا بطنها.. الساعة التي يخرجون فيها من عالمنا المحسوس حيث نعرف ما يحل بنا إلى فناء مظلم لا نهاية له، أو إلى عالم آخر مملوء بالمخاوف والأحلام.
والسماء يلمع فيها قليل من النجوم، والليل الأخرس يزيد ذكرى الموت مهابة، ويبعث إلى النفوس ما يهزها ويرعدها.
ثم في جوف الظلمة علا الصوت من جديد، وقد صحبته أصوات أخرى. ثم تلا ذلك صمت أصم.
جعلت أم جازية تسائل عن كل شيء مما هو لازم في الصباح. ولما علمت أنهم يحتاجون إلى شيء من عيش القمح يخرجونه في صنيتهم طلبت إلى بناتها وزوج ابنها أن يقمن بتجهيز هذا، ثم أن يبادر حسن من الصباح إلى دار عوض الله الجزار ليحجز لهم من البقرة التي ستذبح ما يكفيهم. وطلبت إلى التملي أن يقوم مبكرا فيذهب مع صغرى الفتيات يجمع لها خضار الغيط. وعلى هذا صارت مطمئنة معتقدة أنها في الغد ستكون منتظمة الحال.
ودارت في الدار حركة كبيرة، فصعد «تمليهم» إلى أعلى السطح يرمي حطبا، ونزلت الفتاتان تجهزان الماء والدقيق، ثم ذهبت زينب بعد أن جهزوا ذلك كله تقدح الفرن. لكن ما كانت تحس به من الجهد والتعب لكل حركة تأتيها، والسعال الذي يعاودها دائبا، جعلها تطلب معونة أخوات زوجها. وانتهوا من عملهم، وذهبوا إلى مضاجعهم، فلم يمكنها السعال من النوم، وبقيت تفكر في أمر هذا الميت بقي على الأرض حتى عمر، ثم هو غادرها كما غادرها غيره من قبله. وهي الأخرى ستقضي قبل أن ترى إبراهيم وتنسى بذلك إلى الأبد.
ولما كان الصباح عادت الحركة، وقامت زينب مضناة مكدودة شاحبة اللون قد تغير منها كل شيء، وعيناها المتعبتان قد اتسعتا بعد هذا النحول الذي أصابها، تنظر إلى الدار كأنها مبهوتة أو كأن الأشياء التي ترى ليست هي أشياء كل يوم. وجلست إلى جانب النار ترى أمر هذه القروة في حين نزل حسن وأبوه ليسيرا في المشهد الذي مر طويلا بطيئا حتى وصل إلى الجامع حيث صلى عليه، ثم سار إلى الجبانة حيث ووري الميت التراب.
خرجت «الطبالي» قليلة ساعة الظهر، لكنك كنت ترى ساعة المغرب قريبا من الخيمة المنصوبة جيشا عرمرما من النساء والفتيات وكل تحمل طبليتها أو صنيتها على رأسها. وصاحبات الصواني قد حملن في أيديهن كراسي العشاء، وبقين جميعا ينتظرن أن تخرج صواني جماعة الميت. وفي الخيمة الصامتة يتميز صوت قارئ القرآن يرتله ويتغنى به، فيرسل مع كل آية يقرأ ما يزيد الناس شعورا بالحزن المحيط بهم. ولما اختتم سورته جاءت الصواني، وتسابق النسوة بما معهن إلى الخيمة داخلات كأنهن للسيل المنهمر، ومن بينهم دخلت كبرى أخوات حسن تحمل صنيتهم.
अज्ञात पृष्ठ