ثم جاء إلى فكر حامد أن إبراهيم مخطئ في تقديره قصير النظر فيه. حقا إنه اليوم ذاهب لأعمال دنيئة لا معنى لها، ولكنه يمثل على كل حال أمته وجيشها. وإذا لم يكن من الشرف اليوم أن يكون جنديا فسيحفظ له الزمان أنه كان الصلة ما بين عظمة هذا الجيش القديمة وعظمته المأمولة المقبلة. لكن إبراهيم الفلاح البسيط لا يفهم من ذلك شيئا ولا يستطيع أن يفهمه.
وفي سيره المتمهل غاب عن نظر إبراهيم الذي وقف مكانه يرقب الذاهبات والراجعات وينتظر أن يملأ الماء الفردة التي هو بها، ويرسل على كل ما حوله نظرات الوداع الأخيرة، على تلك الأشياء العزيزة عنده والتي ستغيب عنه زمانا طويلا.
وكل يوم يلاقي زينب، ويتحالفان أن يبقيا على عهدهما إلى الأبد، أن تحفظ له في قلبها ذلك الحب الذي يملؤه مهما جاءت به الحوادث، وأن يذكرها هو الآخر ولو بين دوي المدافع وأنياب الموت الأحمر. ثم يبقيان معا في صمت وتستعبر عيونهما وكل يحدق إلى صاحبه حتى يفترقا.
غدا يسافر إبراهيم. لذلك أعد له أصدقاؤه ليلة يقضونها معا ما بين حديث ولعب. فلم يكد الغروب يجيء حتى ابتدأت ساحة الدار التي انتخبوها لذلك تضوي بالشبان والفتيات أتوا جميعا يحيون صديقهم القديم تحية الوداع، وجاء في مقدمتهم حسن، وعامر، وحسين، وإخوانهم. وبعد أن جلسوا برهة يتحدثون وصل عطية ومعه دربكته فهاص الموجودون، وأفسحوا له مكانا. ثم استمروا في حديثهم، والليل يغطي بستاره السماء والأرض، ويبعث في الجو بنسيمه العذب، والإخوان كلهم عليهم أمارات السرور والرضا.
والوقت يجري لمستقر له، وهم قد ابتدأوا ينقرون على دربكتهم ويصفقون ويرقصون كأنهم يستقبلون وافد خير. فلما تقدمت السهرة ابتدأوا يرجعون واحدا بعد واحد من بعد كلم الوداع لصديقهم المحبوب. وبدل تلك الضجة التي كانوا فيها خيم على المكان صمت بعثت به هيبة تلك الساعة القدسية حين ينخلع القلب إذ يشعر بما سيكون في الغد، وأكثر إخوانه تعلقا به قد بقوا حتى الآخر وجلسوا مدة يتذاكرون قديما، وينتظرون رجوعه في القريب ثم جاء موعد الفراق فتركوه على أن يروه غدا على المحطة.
أما حسن فلم يتركه تلك الليلة بل بات معه، وكلما ذكر الواحد أو الآخر من الصديقين الفرقة القريبة الداهمة تحدرت من مآقيه وسط الظلمة الدامسة المحيطة بهما دمعة حارة تنطق وسط الليل الساكن بما يعانيه قلبه. ويفتح إبراهيم عينه يحدق إلى السماء السوداء يشكو لها ما رمته فيه من فقر وما قضت عليه من فراق، ولكن هيهات للسماء في تلك الساعة أن تسمع الشكوى!
إنه فقير، لذلك هو لا يستطيع أن يمسك بيده حريته. لا يمكنه أن يكون مع غيره على بساط من المساواة أو قليل من العدالة. ليست عنده الحرية التي يمسك معها غايته بيده، بل هو مسوق شاء أو أبى إلى موقف هو في أكثر الأمم عز وشرف، ولكنه في بعضها صغار وذل. هو في الأكثر دفاع عن الأمة وحريتها ورفع لمقامها أن تمسه يد، وفي البعض خضوع لمتحكم أجنبى وخروج على أهله وتسلط فوقهم من غير أن يريدوا عليهم سلطانا.
ولكن.. هل في الأرض أو في السماء عدالة ما دام الكون قائما وحركته دائمة، وما دام فوقه غني وفقير وقوي وضعيف؟! إذن فعبث أن يطلب الإنسان العدالة أو يتألم مما يحيق به من الظلم، فهو واقع به ما دام لا يقدر على دفعه، وإنما يتخلص منه في ذلك اليوم الذي تمكنه قوته من الاستعلاء على ظالمه.
عبث إذن آلام إبراهيم وشكواه، وليس له إلا أن يصبر تحت تصريف الأقوياء والأغنياء في حياته ورزقه حتى يجد من بني طائفته الفقراء العمال من يتعاون معه على دفع بلوى المجموع والأخذ بالثأر من حكام الجمعية الغاشمين. ليس له إلا أن يبقى ساكتا حتى يأتي اليوم الذي لا تضيع فيه كلمته من غير أن يسمعها أحد بل تكون حين ينطقها ذات رنين يقرع آذان المتحكمين في رزقه ورزق أمثاله والقابضين على حريتهم جميعا، يقرعها فتفزع لقرعه وتتجه نحو الصوت فتفهم ما يريد وتجيبه إلى ما يطلب.
ألأن إبراهيم فقير يقضى عليه بالنفي والإبعاد عن أمه العجوز قد مات زوجها، وهجرها أكبر أبنائها اكتفاء عنها بزوجته؟ وعن أصحابه الذين يعبدون منه لطفه ورقته؟ وعن زينب التي ترسل الدمع من قبل أن تفارقه، وعن المزارع الخضراء وقطنها وبرسيمها وأشجارها وجداولها؟.. عن تلك اللا نهايات اليانعة ليقذف به في لا نهايات جهنمية من صحراء قفر لا نبات بها وبين قوم وحوش. ولو ملك عشرين جنيها لوفر على نفسه كل ذلك. أي ظلم أكبر من هذا الظلم؟! بل أي عدوان يعادل هذا العدوان؟!
अज्ञात पृष्ठ