ولئن كان كلام زوجته المتتابع يوما بعد يوم قد كاد يقنعه بوجوب تزويج ابنه حتى يجد من حفدته سلوانا على الشيخوخة إلا أن خوفه الشديد من أن يقع في يد أولئك المفترسين الذين لا يخشون الله ولا يرأفون بالناس ولا يعرفون لهم دينا سوى الكسب من دم المحتاجين وحبه لأرض أبيه لم يجعل المسألة من المسائل السهلة التي يكفي لحلها الإجابة البسيطة. بل ذلك أمر يحتاج إلى التبصر والاحتراس وأن يأخذ الإنسان باله عند كل خطوة يتقدمها. لذلك كان قليل الكلام ما استطاع كلما فتحت له زوجته باب هذه الحكاية المعقدة، وإن كان ضميره غير مرتاح وكأنه يسمع في نفسه صوتا ينادي مع هاته الدائبة في طلبها: إن ما تقوله زوجك حق عليك أن تجيبها إليه.
ولكن كيف يجيبها إليه؟ إن المغامرة من غير روية أكثر ما تنتج الخطأ الذي يأخذ زمنا كبيرا لإصلاحه، بل ربما أدى إلى شر لا يصلح أبدا. وإذن فالخير أن نتوقى أن يكون ما نسعى له اليوم - وكلنا أمل أن يتحقق - مجلبة أسف وألم إن رجوناه وارتكبناه. وليس الإقدام، إن سقناه إلى لجج لا نعرف قرارها، إلا بالغا مبلغ الجهل مؤديا إلى الهلكة والفناء. دار ذلك في نفس خليل وهو على سطح داره والشمس تطوح للغروب، وقد ظهر القمر الكامل قبل اختفائها، والسماء رائقة هادئة صبغتها الشمس بلهبها، وقد غطت الوجود وكأنما يزداد سمكها من حين لحين، أو كأنما يضم إليها المساء ما فوقها من الطباق. والهواء في تلك الساعة بليل يحمل معه رطوبة الليل حتى ليحس بها خليل على صدره العريان. هو ذلك النسيم الذي ينسينا شجوننا ومخاوفنا ليحملنا معه إلى السرور ويذهب بنا إلى عوالم كبيرة تسرح فيها خيالاتنا وأحلامنا كما تشتهي، ونجد كل ما نريد ويتحقق أمامنا كل ما نطلب، إلى عالم بابه طاقة القدر فيه كل ما شئت حاضر موجود.
فلم يستطع خليل أن يقاومه ليبقى في مخاوفه وأوهامه، بل انتقل معه ليحسب في جانب الخير مثل ما قدر في جانب الشر، وليرجو قدر ما خاف ويستقبل في نفسه امرأة ابنه استقبالا حسنا. ثم أبناؤها الصغار أولاد حسن ما أحلاهم حين يملأون الدار بضجتهم وضحكهم، وقد تفرغت لهم جدتهم بما حملته عنها أمهم من الأعمال، فيصبحون ملائك المكان والعزاء عن كل ما يجيء به الزمن!
وجد ذلك العجوز من اللذة في هاته الأحلام ما ذكره الصبا وخف لها قلبه الذي أثقلته الأيام بأحمالها، وارتسمت على وجهه علامات السرور والرضا. فلما جاءته زوجته - وقد انحدرت الشمس واحتجب نصفها، ولم يبق إلا لحظة حتى تجر معها إلى الخفاء بقية ما في النهار، وترسم على جبين الأفق سبيكة الشفق - لم يمهلها أن سألها عما إذا كان حسن قد رجع من عمله؟ فأجابت إنه انحدر إلى الجامع لصلاة المغرب. فقام خليل وكأنما كان - قد تاه في أحلامه عن فريضته، ولم تكن إلا خطوات حتى وصل إلى المسجد والناس يصطفون وراء الإمام، وأكثرهم من الراجعين بعد أن قضوا نهارهم سعيا وكدا ولغوبا. وإلى جانب المنبر عن ناحيتيه وقف شيوخ القرية ممن جاوزوا السبعين، ولم يبق لهم من عمل إلا أن يقضوا بقية حياتهم عبادة وتسبيحا، تراهم يحضرون إلى بيت الله والليل أسود قاتم، فينير لهم ذلك المكان الفسيح فانوس أو اثنان فيهما مصابيح ضئيلة ضعيفة النور، ثم يقرأون الورد، فيرسلون في تلك الساعة النائمة ألذ ساعات الليل ضجتهم وجلبتهم. حتى إذا بدأ الصبح يتنفس هدأت الأصوات وسكت الوجود وساد القرية سكون عميق لا يقطعه إلا نباح الكلاب أو عواؤها أحيانا. ثم يشق عباب الجو ويملأ الفضاء دعاء المؤذن ونداؤه الطويل يضيف إلى آخره: «الصلاة خير من النوم»، ويكررها بصوت جهوري عال يمده مدا، فلا يدع حركة من حركات هاته الكلمات الأربع إلا قلبها في حنجرته على وجوهها المختلفة. فإذا انقضت صلاة الصبح رجع الكل إلى بيوتهم، فمنهم من أكل فيها لقمة وانصرف إلى الغيط، وآخرون يستكملون حقهم من النوم يبقون فيه حتى ضحوة النهار. ومن بعدها يرجع هؤلاء المسنون إلى الجامع يتمطون فيه أو يقعدون يستعيدون حوادث الماضي وظلم إسماعيل، أو يتحدثون عما في قريتهم من حاضر الأمر. فإذا ما توسطت الشمس كبد السماء وآن وقت الفريضة أدوها، ولم يكن بأسرع من أن يأخذ كل منهم مكانه الذي اعتاد كل يوم وينام نوما عميقا يذهب فيه أغلبها إلى الغطيط المزعج. ويتنبهون لصلاة العصر ثم من بعدها منهم من يذهب إلى الزرع يرى ما فعل الله به، ومنهم من ينتظر نسيم المغرب الجميل في المسجد. وعلى هذا النمط يقضي هؤلاء الشيوخ حياتهم هادئة تسيل مع الزمان لا يفكرون في شيء ولا أمل لهم إلا أن يغفر الله لهم ويتقبل صلواتهم ودعاءهم.
دخل خليل وأخذ مكانه الذي تعوده والإمام يرفع أصابعه إزاء أذنيه وينادى: «الله أكبر»، فترتفع من ورائه أصوات المؤمنين تنادي هذا النداء بغير انتظام. فمنها العالي الرفيع حتى ليكون مزعجا، ومن يردد الكلمة مرتين أو ثلاثا كأنه لا يتحقق من قبول الأولى فيشفعها بالثانية، ومنهم من يقطع الكلمة الأولى من وسطها ثم يبدؤها من جديد، وآخرون يخطفونها خطفا، كل ذلك بلا ترتيب ولا نظام، بل هو مجموع أصوات مشوشة لا تملأ هذا الفضاء المهيب الهادئ إلا ساعات الجماعات، ولما رأى الإمام أن قد هدأت الضجة ابتدأ الفاتحة يرتلها، وإن كان يتعجل في القراءة حتى إذا كان في نهايتها، إذا صوت جاء من ناحية الحنفيات: «إن الله مع الصابرين» وتبعه رجل يجري وسط المسجد مكشوف الذراعين، فغطاهما بأكمامه حتى إذا استوى مع الصف ارتفع صوته بعد أن سكن الكل ينبه الإمام أن قد صار معهم. ولكنه ما أتم نداءه حتى جاءت «إن الله مع الصابرين» أخرى استوقفت الجمع لحظة من الزمان. ثم وسط تلك الظلمة التي تدخل الجامع من كل نوافذه فتذر حيطانه وأعمدته البيضاء ملتفة في رداء من الشك يزداد رويدا رويدا، انحنت أقواس هؤلاء العابدين ركعا حتى ليحسبهم الناظر من بعد كأنهم خيالات تموج وسط مساكن الجن، أو هم ملائك مقربون لفتهم السماء ببردها. والليل يسقط من سقف المعبد العالي فينزل بالمصلين على جباههم سجدا حتى ليكادوا يستوون بالأرض خضوعا وخشية. ولا تأتي عليهم الركعة الثانية حتى يكادوا يختفون عن عين الرقيب. وفي سكوتهم تهمس شفاههم بالدعوات يحملها الليل على جناحه فيصعد بها إلى السماء ثم يرجع فيوحي إلى الإمام أن قد سمع الله لمن حمده، فيلقاها الجمع وقلوبهم ملأى من خشية الله، أو هم يحلمون بما سيشترونه من أسواق الخميس، أو يعدون في سرهم الأيام التي اشتغلوها في الأسبوع المنصرم وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن ينتهوا من واجبهم الديني ليذهبوا إلى كاتب المالك يحاسبونه على اليوم الذي يريد أن يأكله عليهم. ولا يكاد إمامهم يسمعهم السلام وينتظر لهم من الله الرحمة حتى ينفلتوا لإتمام حسابهم، ولا يبعد أن يوجد الكاتب من بينهم فيأخذوه سوقا إلى مكتبه ليظهر لهم من بين دفاتره حقهم، وما لهم، وما عليهم. •••
صلى خليل معهم ودعا الله أن يوفقه للخير فيما فيه يفكر. ثم لما انتهى انصرف راجعا على عقبه فإذا ابنه قد سبقه إلى الدار، وهناك أخذوا عشاءهم معا والرجل مشغول البال حائر الفكر لا يقرر في نفسه أمرا ولا يجزم بشيء، تدفعه العوامل المتخالفة المتضادة فلا يثبت أمامها، ولا يميل إلى جانب منها، ولا ينهزم دونها. ويزيد في أحلامه وخيالاته النسيم العليل يسري ساكنا هادئا يبعث إلى الكون الغارق في اللجة العظيمة من أشعة البدر سرورا وانتعاشا، ولكنه ما عتم أن صلى العشاء وجاء موعد النوم حتى رأى نفسه مضطرا لأن يترك كل شيء ليذهب إلى مرقده ينتظر فيه الفجر الذي يزعجه منه، وانتهى بذلك هذا الحلم الجميل المخيف الذي أتى عليه النسيان حتى ذكرته امرأته به من جديد.
لم يكن في هذه المرة فيما كان فيه من قبل من الشك، بل سألها عمن تراها تصلح أن تكون زوجا لحسن. وأثار هذا السؤال اختلافا آخر في الاختيار بين أن تكون فتاة من أمثالهم في البلد جماعة ذوي غنى وثروة، أو ما يفضله خليل من ابنة حلال تعرف كيف تقوم بأمر ابنه وبيته ويقدرون عليها فلا تعمل عليهم كل يوم غارة وتقيم لهم مأتما وتغضب كل شهر وتذهب إلى أهلها. وما كان ذلك الخلاف بالذي يأتي عليه حديث ساعة أو يوم، فإنه إن تكن الأم قد أعدت في نفسها من تريدها عروسا لحسن فإنها لم تر من حسن السياسة أن تطلع زوجها على ذلك لأول وهلة، وخصوصا أنها رأت من كلامه ما زعزع اعتقادها فيمن اختارت من قبل، وكأنها اقتنعت بصحة ما يقول، فأرادت أن تصل إلى من توافقها هي وتوافق ابنها وتوافق خليلا زوجها.
أما حسن فلم يكن له في هذه المدة من كلام ولا حديث في الموضوع مع أبيه، وإن كانت أمه تعلم من دخائل نفسه ما يسهل على الولد أن يخبر به أمه، وإن كان يستحيل أن يطلع عليه أباه. إنه لا يرفض الزواج، بل هو يريده ولكنه لا يعرف أكثر من أيهما أي فتاة يخطب.
بعد ذلك بأيام كان في غيطهم المجاور لغيط السيد محمود العامر يوم ذاك بالعاملات، ويتولى الرياسة إبراهيم كعادته. فنادى حسنا ساعة الظهيرة، وقد انتهى الكل من غدائهم، أن يأتي فيلعب معه «طرد طاب»
2
अज्ञात पृष्ठ