وأتقدم لأسرة الراحل الكريم وذويه وزملائه ومدرسته الأدبية والثقافية بخالص العزاء، داعيا المولى عز وجل أن يلهمهم الصبر والسلوان.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كلمة الأديب العالمي نجيب محفوظ في تأبين ثروت أباظة
الأديب لا يموت
كان أديبا كبيرا نبيلا، وصديقا كريما؛ ذلك هو الراحل العزيز ثروت أباظة الذي لم أكن أتصور أن أتخلف عن حفل تأبينه باتحاد الكتاب الذي يدين بوجوده لهذا الرجل قبل أي إنسان آخر، لكنه الزمن الذي قضى علي بالعزلة شبه الكاملة بعد أن ضعف بصري، وقل سمعي، ووهن جسدي.
وإذا كان وضعي هذا قد حال اليوم دون تواجدي في هذه المناسبة القريبة من قلبي، فإن نفس هذا الوضع قد حال في السنوات الأخيرة دون تواصلي مع الصديق الراحل، خاصة بعد أن أقعده المرض هو الآخر وحال دون زياراته الدورية لي، وقد كنا نتغلب على ذلك الوضع بالاتصال الهاتفي في البداية، ثم حين تعذر ذلك بعد ضعف سمعي لم أكن أجد وسيلة للاطمئنان عليه غير الرسائل البرقية التي كان يرد علي بمثلها، وها أنا ذا اليوم في هذه المناسبة لا أجد من وسيلة لتأبين الصديق سوى هذه الرسالة.
ولقد صدمت في وفاة ثروت أباظة صدمة ما زلت غير قادر على تخطيها، فقد كان ثروت أباظة بالنسبة لي صديقا وأخا قبل أي شيء آخر، وقد عرفته في البداية كاتبا موسوعيا من خلال مقالات كنت أقرؤها له قبل أن ألقاه، وحين لقيته أدهشني صغر سنه الذي لم يكن يتناسب مع عمق كتاباته، وكأن ذلك اللقاء كان موعدا مع القدر الذي شاء أن تبدأ به صداقة امتدت طوال العمر وتخطت كل العقبات، من اختلاف الآراء فيما بيننا سواء قبل الثورة أم بعدها، أم ظروف الحياة التي لم تنجح في أن تباعد بيننا، إلى أن تمكن الموت وحده من ذلك، ولو إلى حين، يعود بعده التواصل إلى أبد الآبدين.
ولقد تحول ثروت أباظة من كتابة المقالات النقدية والثقافية إلى الرواية، فكان أحد أكبر كتابها في اللغة العربية بأسلوبه الجزل وغزارة إنتاجه، وقد تميزت رواياته بالمستوى الفني الرفيع وبالنجاح الجماهيري الواسع في آن واحد، ولم يختلف على قيمته الأدبية أحد، في المقدمة كان عميد الأدب العربي نفسه الدكتور طه حسين الذي أشاد بأدبه وبمستواه الرفيع.
ولم يكن ذلك غريبا على أديب تعلم الشعر في طفولته وحفظ دواوين أحمد شوقي في صباه وأثرى الأدب الروائي في سنوات نضوجه.
وقد كان لثروت أباظة أخلاق الفرسان من الشجاعة والمروءة والشهامة والكرم، تلك الفضائل التي باتت نادرة في عالمنا اليوم، وقد خابرته في مواقف كثيرة بعضها سياسي والآخر إنساني، فكان مثالا للشجاعة والإقدام في الأولى، والكرم والأخلاق في الثانية، وقد عرف عنه ذلك خصومه قبل أصدقائه؛ فكانوا يلجئون له في الشدائد لمعرفتهم بشهامته وكرم أخلاقه، وكثيرا ما كنت أنا شخصيا وسيطا في مثل هذه المواقف التي لم يكن يتردد فيها ثروت أباظة عن تلبية حاجة من يلجأ إليه، فأين لنا مثل هذا الفارس في عصر طغت فيه المصالح الشخصية؟ فصرنا نقيم الرجال طمعا في مصلحة، ونهاجمهم طمعا في مصلحة أخرى، لقد رحل الآن ثروت أباظة ولم يعد يملك نفعا ولا ضررا، فهل حان الوقت لكي نعطيه حقه من التقييم الموضوعي الذي لا يعتمد على مواقفه السياسية في الحياة، وإنما على قدرته وموهبته الفذة في الأدب؟ إن الأديب لا يموت فأعماله خالدة بعد رحيله، لكن المجتمعات السليمة وحدها هي التي تستطيع تقييم أدبه بما يستحق؛ فتفيد به الأجيال التالية، أو تصد نفسها عنه بالتحيز وعدم الموضوعية، فلا تسيء إليه بقدر ما تسيء لتاريخها الأدبي.
अज्ञात पृष्ठ