فنظرت إليه مريم نظرة ودت لو أنها خنجرا في فؤاده.
ثم هنأهما القس بولس وودعهما قائلا: إذا كنتم تستحيون بي فسأخفي منذ الآن وجهي وأمري عن الناس، وأقيم والقس جبرائيل متنسكا في هذه الديار. - لا يا أبي لا، بل يجب أن تقيم معنا - معي أنا، لا طاقة لي على فراقك، سامحني أبي، اغفر لي، لقد أهنتك وجرحت قلبك ساعة كنت متألمة متعذبة، سامحني.
وأخذت يده تقبلها باكية، فقبلها القس بولس ووعدها أن يقيم قربها: إكراما لأمك وإكراما لك يا بنتي، ويا ليتني توفقت في شبابي إلى هذه السعادة التي أنعم الله بها عليك يا عارف، ليتني ألهمت إلى مثل شهامتك ومروءتك ووفائك، بارككما الله ومتعكما.
ثم قالت مريم تخاطب زوجها: قم بنا نطلع إلى الكرم إكراما لفريد، احمله على ظهرك، امش قدامي على مهل، لا تسرع فالمشي يتعبني.
وبينا هم سائرون في البرية جلست تحت صفصافة تستريح وقد اعترتها نوبة سعال شديدة، فسألها زوجها: أمن زمن تسعلين؟ - منذ أشهر، ولم تشتد علي الوطأة إلا في هذا الشهر. - وهل استشرت الطبيب؟ - لا تسل عما يزيد بآلامي.
ثم نهضت مستنشطة تظهر من الضعف قوة ومشت مصعدة حتى وصلت إلى الكرم على رأس الجبل. - ما أبدع هذا النهار، وما أجمل المشاهد حولنا! تغيب الشمس فتودعها حمائم البحيرة نائحة باكية، ثم تشرق فتستقبلها نائحة باكية، كأنها تدرك ما لا يدركه الإنسان من أسرار الحياة وحقائق الوجود، أنا بائسة يا عارف وأنت قليل الحظ، سيئ الطالع، عدت إلي مستعطفا مستغفرا يوم لا أستحق أن أرى وجهك ولا أن أسمع كلماتك، لقد تدنس جسمي، وتدنس قلبي، وتدنست نفسي، آه أواه! حياتي نغمة من نوح الحمام، حياتي قطرة من دم طائر مذبوح، حياتي شعاع من هذه الشمس الغاربة، شعاع لامس الأرض فتبدد نوره، نقطة دم امتزجت بالتراب فاعتراها الفساد، أغنية سمعتها آذان البشر فضحكت منها قلوب البشر، راقصة ...
فقاطعها فريد وهو قادم إليها يقول: ماما، هذا عنقود للبابا. - خذه منه، هذا عنقود السعادة، إذا ظل على الدالية يبلى، وإذا قطف لا يدوم، بل هذا الصغير الحبيب عنقود سعادتنا، ويلاه! لولاه اليوم لكنت سعيدة، لولاه لعرفت ما أفعل، لعرفت مصيري، لقررت أمري، لأنهيت حياتي. - ما بالك يا حبيبتي، ولم هذا اليأس؟ إذا كان مرضك يقلق بالك فمرضك إن شاء الله يزول، غدا أعود بك إلى حيفا نستشير الطبيب، وإن كنت لا تحبين الإقامة هناك فأقيم وإياك حيث تشائين، ننتقل إلى لبنان، إلى مصر، إلى باريس، إلى حيث يميل قلبك. - قلبي لا يميل إلى شيء، كان قلبي نارا موقدة فصار رمادا، وبلاد الله في عيني كالغور، وحياتي كالنبع المالح الذي شاهدته اليوم، الكامن في الأدغال تحيط به الدفلى وورق البردي والقصب والشوك، فإذا اخترقتها سالما تشاهد غديرا بهيجا مترقرقا يركض إلى البحيرة منشدا نشيد السرور، فتهتف قائلا: ما أجمل وجهك في ظلال الدفلى والقصب، وما أبدع صوتك في سكينة الأدغال! ولكنك إذا شربت منه تجد مياهه مذقة مالحة. - كفاك من هذه التأملات المحزنة، كفاك من هذه الأوهام، تعالي نشاهد من ذاك المطل مشهدا يزيل الأكدار ويبهج القلوب. - أين فريد؟
ونهضت مريم مذعورة تتلفت منادية ابنها، فأجابها من تحت الدكة ثم صعد الدرجة وجاء راكضا هاتفا: ماما، ماما، عسفول، عسفول.
وكان الولد قد رأى عصفورا متفلتا من قضيب نصبه هناك أحد الصبيان ولم يزل على جنحه شيء من الدبق، فلحقه وأمسكه وجاء والديه يريهما إياه بهجا طربا: عسفول عسفول، مسكته تحت الهفه.
فتأمله عارف وقال مخاطبا عروسه: قلبك مثل جنح هذا العصفور، حط على قضيب الصائد ثم تفلت ولم يزل الدبق عليه يمنعه من الطيران، لذلك أنت حردة يائسة. - وما أقل حظ من يمسكني ويغسل جنحي، تعال يا حبيبي نمشي والبابا. - ماما، بكله أغسل العسفول وأربطه بخيط. - برافو فريد، برافو! لقد رد صغيرنا عليك وأفحمك، اركب على ظهري، هات يديك، مكن رجليك، امش قدامنا يا حبيبتي فنماشيك، على مهل، على مهل.
अज्ञात पृष्ठ