وأقفلت الخادمة الباب فجأة دون اعتذار كأنها أبت أن تجيب على سؤال آخر في الموضوع، فعاد القس بولس إلى مدرسته وهو يقول: لا تكرهوا شيئا لعله خير لكم، ولكن الهواجس حالت دون استسلامه، فبلبلت باله وأيقظت في فؤاده المحرق المؤلم من الذكرى، فكتب كلمة لغصن البان أرسلها في البريد إلى عنوانها الأخير، ولبث ينتظر، فمر الأول والثاني فلم يجئه الجواب ولا أعيد كتابه إليه، ثم ذهب إلى إدارة البوليس مستقصيا، فرحب المدير به ووعد أن يبذل الجهد في البحث عن مقر غصن البان.
وبينما كان القس بولس في غرفته ذات يوم يطالع في مجلة إسلامية مقالة في تحرير المرأة والحجاب، جاءه الخادم يقول: قسيس من فلسطين يروم مقابلة سيادتكم.
فنزل القس بولس إلى صاعة الاستقبال، وإذا هو في حضرة القس جبرائيل مبارك! وقف مبهوتا إذ رآه يكاد لا يصدق ناظريه، ثم هتف متأهلا مرحبا، وتعانق الأبوان وجلسا جنبا إلى جنب على الديوان. - كيف حالكم؟ وكيف إخواننا في الناصرة؟ - هجرتهم منذ أربع سنوات.
فقال القس بولس متبحرا: صحيح، صحيح، ورحمة أبيك تخبرني، ألم تكن في طبريا منذ ثلاث سنوات مقيما هناك في زي الأعراب. - دعنا من هذا الآن، فقد رأيتك لما كنت أنت هناك أيضا، سنعود إلى هذا الموضوع. - واستخرج القس جبرائيل جريدة سورية من جيبه فيها المقالة التي نشرت في جرائد مصر؛ المقالة التي عنوانها: «مريم الناصرية». - اقرأ هذه. - قرأتها يا أبتي قرأتها. - إذن لي عندكم حاجة، أنا غريب هنا ولا أحسن التجول في المدينة ولا أحب ذلك. - حاجتكم نقضيها على الرأس والعين، وماذا عساها تكون؟ - مهمتي سرية. - حسن، لنصعد إذن إلى غرفتي. - لا أحب أن يراني أحد هنا. - الغرفة قريبة، والتلاميذ الآن في دروسهم، تفضل.
وصعد القس عمون إلى غرفته يتبعه القس مبارك، فإذا هو عند دخوله في حجرة صغيرة فيها سرير وديوان صغير وكرسيان وحصير، ومنضدة للكتابة ورفرف فوقها طويل، لوح بسيط غير مدهون وغير مصقول أحنت الكتب ظهره، وعلى الحائط صورة القديس أنطونيوس بين صورتي العذراء ويسوع من الصور اللماعة الملونة المطبوعة في ألمانيا.
أقفل القس بولس الباب ودعا الزائر إلى الديوان وجلس على كرسي أمامه، ينصت لحديثه. - جئت القاهرة يا أبتي ملبيا صوت الرب إلهي، جئت أبحث في هذه المدينة عن فتاة من بلادنا لعلك تعرفها، صاحبة هذه القصة، فتاة خاطئة كما تعلم شقية يتيمة وحيدة، أنقذتها من العار والبلاء مرة، فضاقت مني صدرا وهربت إلى فرنسا ثم عادت كما يظهر إلى مصر. المقالة هذه لا تخلو من الحقائق، وقد أحاق بها العار والبلاء ثانية، ماتت أمها في الناصرة منذ خمس سنوات وأوصتني بها، وقد تجلت لي الحقيقة الرائعة في الزهد والتنسك منذ تلك الساعة، ساعة عرفت أمها، ولا يخلص البر والنسك إلا من خلص نفسا غير نفسه، فهل لك أن تساعدني في البحث عن هذه الفتاة وفي خلاصها؟
فأجاب القس بولس والاضطراب باد في وجهه وفي صوته: كأني سمعت قبلك ذاك الصوت الذي سمعته، سبحانه تعالى وتبارك اسمه. - إذا تركنا مريم تذهب فريسة المعاصي والمنكرات، إذا تركناها تموت في موبقات هذه المدينة، فلا النذور تنفعنا يا أبتي ولا نسكنا يرضي الله.
أحب القس بولس أن يسأل محدثه سؤالا؛ فتردد خوفا من استماع الجواب، كأنه تحقق أمرا ود ألا يكون، فآثر السكوت، ثم قال: وأين أنت مقيم؟ - خارج القاهرة، قرب الأهرام، فلقد تعرفت بأحد الفلاحين في السكة وأنا قادم من بورت سعيد وهو يسكن هناك، فاستأجرت منه بيتا بل كوخا قرب بيته؛ لأن إقامتي خارج المدينة أوفق لقصدي، لا أريد أن يعلم أحد بما أنا فاعل، وبالأخص الجرائد، فتفسد سعينا. - حسن، حسن، ولكني أعتذر إليك الآن، علي درس القضية، فهل لك أن تنتظرني هنا قليلا فنستأنف الحديث ونفكر بطريقة نتخذها. - كما تريد. - هذه مجلة إسلامية فيها مقالات تسلي وتضحك، سأعود قريبا.
وخرج القس بولس من غرفته مضطرب البال، أسير الهواجس، تتقاذفه من تقادير الزمان عواصف الهول المجهول، ذهب توا لا إلى المدرسة بل إلى الكنيسة فجثا أمام المذبح يصلي، ثم تلا المزمور الحادي والخمسين: ارحمني يا رب حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك امح معاصي، ألهمني ربي سواء السبيل، إذا كان ما أظنه الواقع فاهدني الطريق المثلى لأخلصها وأخلص نفسي، مدني بنفحات من لدنك فأقوى على الشدة، مدني بنورك الأزلي فينير ظلمات سري المهلكة، وسجد مرارا يقبل الأرض، ولبث هناك خاشعا ضارعا متبحرا متأملا، ثم خرج من الكنيسة ثابت الجأش موطد العزم وقد زال بعض اضطرابه.
وبينا هو عائد إلى غرفته لاقاه في رواق المدرسة خادم فسلمه كتاب من مدير البوليس يستدعيه فيه إلى الإدارة، فلما اجتمع بأخيه القس جبرائيل أخبره أنه كان قد باشر البحث عن غصن البان وأن رغبته بإنقاذها لأشد من رغبته، وأطلعه على كتاب مدير البوليس، ثم قال: أما إذا اهتديت إلى منزلها فلا أظنها تقابلني، لقد حاولت مقابلتها مرارا فأبت مكابرة ، وحضرتكم تعلمون أني معروف في البلد، ولا يمكنني أن أتجول في كل أنحائها وأحيائها، وقد تكون غصن البان ...
अज्ञात पृष्ठ