نجيب أفندي مراد من أسرة كريمة غنية في بيروت شبيه صيتها بصيت بيت مبارك في فلسطين، وهو من الشبان الأغنياء الذين يسافرون كل عام إلى باريس ليذوقوا الحديث من لذاتها، ولكنه سئم ما اعتاده هناك ومله وصارت نفسه تصبو إلى كل مستغرب جديد، ولما علم أن مريم مسافرة والسيدة الإفرنسية إلى باريس ازدادت رغبته بها ووطن النفس على أعلاقها، فرمى الشبكة على عادته في مثل ذي المواقف وطفق يعالجها بلطف يتخلله المبتذل من التغرير وببراعة تتراوح بين الأدب والتمويه، ومعشر النساء قلما يدركن كنه الاثنين إذا كان الصائد دقيق الحيل، وقلما يميزن بين معروف هو أرجوحة للنفس منشأه كرم الأخلاق ومعروف هو أحبولة للجسد، فكيف بفتاة قروية ساذجة.
على أن مريم، وإن تكن من البنات اللواتي لا يطيب لهن عيش مجرد من الحب بعد أن يعرفنه فيعدن إليه راغبات مستهلكات رغم ما يقاسين منه، وإن تكن من الشرقيات اللواتي يتلجلج في أنفسهن روح النساء البابليات، بل تحتدم في عروقهن شعلة من تلك النار التي كانت تضرم في الهياكل السورية قديما، فقد قاست من سذاجتها واستهتارها ما علمها شيئا من «صرف» الحب، فصارت تعرف بعض مفرداته وتراكيبها، وتدرك بعض أفعاله وأوزانها، وتستطيع فوق ذلك أن تصرف في بعض الأحايين ما لا ينصرف منها، فلو عاشت مريم في قديم الزمان؛ زمان الآلهة، زمان الشعر والجمال والعهارة الدينية، لكانت من ربات الهيكل - هيكل الغرام - تعبد فيه وتقدم على مذبحه ضحية ذكية، ولكن الزمان هدم الهيكل وحفظ المرأة، فهل يجعلها أسيرة الوراثة اليوم وكانت قديما أسيرة الدعارة؟ جواب الدين على ذا السؤال سؤال آخر معروف، وهو: وهل ينبت العوسج تينا؟ أما العلم فيقول: وإن كان العوسج لا ينبت تينا فقد ينبت تدريجا بواسطة التربية نبتا أرقى من العوسج فيثمر ثمرا أحسن من التين، وأعجب ما في نشوء الأخلاق وأطوارها أن الخلة الموروثة قد تضعف فتصير كالخلق المكتسب، والخلق المكتسب قد يتوطد فيصير كالخلة الموروثة، ولعمري إن إفراطا في الحب يقرن إلى سذاجة في الخلق ليكسب صاحبه من التجارب ما يجعله سيدا على الموروث فيه من الطباع والمكتسب، هذا إذا كان فطنا نبيها، عزوما طموحا، حافظا ذاكرا، فلا ينسى اليوم حساب الأمس، ولا يرضى من الغد بما رضي به اليوم.
إذا كانت مريم قد استأنست بنجيب أفندي مراد الذي استمر أثناء السفر يحدثها ويناعمها، ويتقرب منها، فقد كانت تزن كلماته وسلوكه بالميزان الذي اصطنعه لها القدر في بيت يوسف مبارك بالناصرة؛ هذا أديب ولكنه رجل، حسن الوجه، حسن السلوك، حسن الحديث ولكنه رجل، يرف حولي كطير الحمام، حفيف جنحيه كالنغم الرخيم في قلبي ولكنه رجل، ثم قالت مستشهدة على عادتها: ولا بأس به وإن كان رجلا.
وجعلت تباحثه في موضوع الكتاب الذي تطالعه فتزعجه تارة وتارة تدهشه وتضحكه. - إذا كانت المرأة أضعف عقلا من الرجل فالسياج ينفعها ولا يضرها والحجاب نوع من السياج. - وهل تفادين بحريتك خوفا من عواقبها؟ - لا، ولكنني لا أركب الفرس الشموس قبل أن أسرجها وألجمها، الحرية فرس شموس ذللها الرجل ولم تذللها المرأة، أوليس خيرا للمرأة الشرقية في حالتها اليوم أن تركب لغايتها جحشة سهلة الانقياد، لا ترعبها إذا كبت وإذا سقطت لا تضرها. - ولكن المرأة التي استعبدها الرجل أحقابا من الزمن ... - أراك تردد كلام هذا المؤلف الذي يكثر في كتابه من ذكر العبودية؛ عبودية المرأة، ما هي يا ترى العبودية؟ أنا لا أعرفها، إذا خدمت فأخدم راغبة، وإذا أحببت فأحب راغبة، وإذا جننت فأجن راغبة - أعمل دائما ما أريد، وما عرفت هذه العبودية التي ... - ستعرفينها عندما تتزوجين. - وهل العبودية في الزواج؟ إذن لا أتزوج، والمرأة التي تعرف وتؤكد أن الزواج عبودية وتتزوج راضية لا يحق لها أن تشكو العبودية، والرجل الذي يتولى الدفاع عنها وهي قانعة بما هي فيه راضية، فإما أن يكون قليل الأدب طفيليا، وإما أن يكون منافقا. - أجد هذا منك أم مزاح؟ - وهل في مثل ذا الموضوع باب للمزاح؟ أقصى العجب من امرأة تلبس الحجاب رغم أنفها، وترضى بظلم الرجل كرها منها. - وماذا كنت تفعلين لو كنت من أولئك البائسات السجينات؟ - أمزق الحجاب بيدي ولا أكلف رجلا الدفاع عني والرثاء لحالتي، عشر نساء يسرين سافرات الوجوه في شوارع المدينة خير من مائة كتاب يكتب في سبيل تحريرهن.
وجاءت إذ ذاك مدام لامار فرأت مريم تحدث الشاب الغريب، فاستدعتها إليها تسألها عنه: لا يجب أن تحدثي أحدا لا تعرفينه يا مريم. - ولكنه عرفني بنفسه وهو شاب أديب من بيروت؛ نجيب أفندي تفضلي مدام أعرفك به.
فدهشت السيدة الإفرنسية وانقبضت لذي الحرية في الفتاة وذي السذاجة، وأفهمتها بعدئذ أن السيدات لا يعرفن بالرجال، وإنما الرجال يقدمون إلى السيدات. - كان ينبغي لك أن تستأذني أولا، فإذا أذنت تعرفين الشاب قائلة: اسمحي لي، مدام، أن أقدم إليك فلانا.
فاعتذرت مريم إليها ووعدت أن تعمل في المستقبل بإشارتها.
وجعل نجيب مراد يتقرب من السيدة ويجاذبها أطراف الحديث، فراقها منه كياسة تكاد تكون إفرنسية، وعلمت من أحد المأمورين في الباخرة أن الشاب من أسرة سورية كريمة، كثير المال، كثير التجوال، ولم تنته مدة السفر حتى تدرج نجيب إلى قلب مريم وإلى إكرام سيدتها، فلما رست الباخرة في مرسيليا كان فرنسوى لامار على الرصيف ينتظر أمه، وفرنسوى شاب لا يتجاوز الخامسة والعشرين من سنه، قصير، لحيم، ناصع البياض، بليد البادرة، وبعد أن حيته أمه وعانقته قدمت مريم إليه تقول: جئتك بمن يعلمك اللغة العربية، فرنسوى ابني يا مريم.
ثم عرفت ابنها برفيق السفرة أحد أعيان سوريا نجيب أفندي مراد، فتصافح الاثنان وتبادلا المبتذل من عبارات السلام والسوري يتأمل الشاب ويفكر بمريم، فقال في نفسه: لا خطر في وجه سمين ويد باردة، ثم أعطته مدام لامار بطاقتها. - ينبغي أن تزورنا في باريس. - أتشرف مدام.
وودعهم نجيب مراد مطمئن البال يهنئ نفسه بنجاح الدور الأول من مشروعه، وبعد أسبوعين زار مدام لامار في بيتها وجالس مريم برهة يسألها عن حالها. - وهل أنت راضية بمهنتك مسرورة؟
अज्ञात पृष्ठ