وقال الجرذون: الحياة بضعة لحم منتنة، وفخ مخلع، وقط جائع.
فقال المعلم في نفسه: وكذلك في الناس، كل ينظر إلى الحياة من بيته، من عشه، من جحره، فيبني رأيه على تجاربه الصغيرة المحدودة؛ نتيجة ذلك الفوضى، أما الحقيقة فهي في جانب من ينظر إلى الحياة من السماء من فوق الأرض وسائر الأكوان، فالدين إذن - منزلا كان أم لا - هو أحسن في الأقل من فلسفة العنكبوت والجرذان.»
ثم قرأ على الجهة التالية من هذه الورقة ما يلي: «كلما فكرت بالماضي؛ ماضي حياتي ينقبض قلبي، أجمل الأسرار الدينية كلها وأنفعها سر الاعتراف، فهو مرهم لجروح النفس. لولاك يا ربي لمن يعترف المجرم الأثيم؟!»
فطوى الرجل الورقة ووضعها في جيبه وسار في طريقه إلى البلد يفكر بما حوته من الحكمة، ومن الصدف أن هذا الرجل جاء تلك الناحية لما كان القسيس هناك، ولكنه لم يقم عند الحمامات، ولم يكن قصده الاستحمام، فعلى شاطئ البحيرة بين طبريا وسمخ بيوت حقيرة شبه أكواخ منفرد بعضها عن بعض، يستطيع المرء أن يقيم في إحداها بعيدا عن الناس وقريبا من البلد، وهذا الغريب استأجر كوخا في أسفل الجبل إلى الجهة الجنوبية من قبور هناك لبعض علماء التلمود بين الحمامات وسن النبرا، وكان المقيمون في الحمامات والعمال يراقبونه ويرجمون بالغيب في أمره، ومن طبع الناس أنهم لا يستطيعون أن يجاوروا سرا دون أن يمنحوه اسما ويحيكوا له من عنكبوت ظنونهم ثوبا وقصدا، فلقبوا الرجل ب «أبي السلة» لأنه لم ير مرة مارا بلاها، وقالوا: جاء لا شك يتجسس للعربان، ولكن محمودا البحري رآه يكلم امرأة في تلحوم عرفته وسلكت قدامه مسلك الخادمة قدام سيدها.
وفي ذات يوم عاصف ماطر، بينا كان القسيس واقفا عند شباك غرفته يراقب هياج البحيرة، أبصر الغريب مارا في الطريق فدهش دهشة عظيمة واستدعى أحمد من ساعته. - أتعرف ذاك الرجل يا أحمد؟ - «أبو السلة» لا يا محترم، هو غريب جاء هذه الناحية منذ أسبوع. - وأين يقيم؟ - لا أدري والله، إلا أنه يجيء من هذه الجهة؛ جهة سمخ فيذهب إلى البلد. - وهو ذاهب إلى البلد الآن؟ - نعم، أظن ذلك. - راقبه عندما يرجع خفيا، واتبعه واهتد إلى منزله، خفيا أفهمت؟ وتعال أخبرني. وأعطاه بشلكا، فأخذه أحمد وهو يقول: أمرك يا محترم، محسوبك يا محترم.
أما الغريب فركب ذاك اليوم العربة التي تسير بين طبريا والحمامات ظنا منه أنها تقيه في الأقل الأوحال، ولكن عربة السلطان لا تخلف مثل ذا الظن في تلك الطريق وفي مثل ذاك اليوم، فكيف بعربة مخلعة متهدمة، سجوفها ممزقة، وأجزاؤها ملزقة، سقفها كالغربال، وعريشها مربط بالحبال، يجرها ثلاثة من الكدش الجائعة الناحلة المنهوكة، وتقل طابورا من يهود طبرية، وقنطارا من الأمتعة، وإن من يشاهدها عن بعد في مثل ذاك اليوم تسقط، وتعلو، وتكر، وتفر، فتلعب الرياح بخامها الممزق، وترشقها الطريق بأوحالها فتختفي تارة في الماء دواليبها، وتارة تغزل في الهواء، يظنها قاربا في البحيرة تتقاذفه أمواجها الهائجة، ومن سوء الاتفاق لتتم في تلك الساعة ضربات إسرائيل على الغريب كانت الفتاة هيلانة من المسافرين جالسة قباله، فجعلت تغازله برجليها، وترشقه بأوحال عينيها فتنشدح عليه إذا غارت العربة، وإذا انجدت يهوي عليها، فتجلع فاها مكركرة وهو ساكت صابر، وتصيح صيحات يردد صداها اليهود هاذرين هاذين. - روضيه يا هيلانة! - فارت الطنجرة يا هيلانة! - ارفعي الغطاء. ارفعيه! - أنزلي الستارة يا هيلانة! - «رايح فين يا مسليني يا بدر حبك كاويني.» - سدي الطاقة سديها! - سدوا «طيقانكم» يقطع الله أعماركم! حبيبي حلو ومحتشم، آه حبيبي!
فنظر إليها الغريب بعين رءوفة وخاطبها بلطف قائلا: وهل الحشمة تضرك يا بنتي؟ - الحشمة؟ مؤكد! تقتلني، إذا أنا احتشمت أموت من الجوع، وتموت ... وسكنت عند هذا منكسة رأسها. - إذا أنت احتشمت تحيين حياة سعيدة، تنجين من الأجلاف الأشرار وتكتسبين محبة الأفاضل من الناس. - الأفاضل؟ أين هم الأفاضل؟ في طبريا؟ اها ها ها ها! ما رأيت في حياتي كلها رجلا فاضلا، أبي قواد الله يبليه! وأخي ديوث الله يعميه! وكل الرجال مثل أبي وأخي. - فتجهمها الغريب قائلا: احتشمي يا بنتي تأدبي قد يكون بيننا الآن رجل فاضل.
فسكتت هيلانة وأطرقت مفكرة. ثم سألها الغريب: وهل أمك في قيد الحياة؟ - لا تسألني عن أمي، أمي!
وشرقت الفتاة بريقها واغرورقت عيناها.
ولما وصلت العربة إلى الساحة خارج البلد دفع كل من الركاب نصف بشلك إلى الحوذي، ودفع الغريب عنه وعن الفتاة، واجتازوا تلك الساحة - بل تلك البركة - غائصين في أوحالها ومياهها حتى الركاب، وسار الغريب تتبعه هيلانة، وما كادا يدخلان البلد حتى أبصرها البوليس فاعترضها في سبيلها قائلا: إلى الحبس، إلى الحبس.
अज्ञात पृष्ठ