ولكن الأقدار لا تمهل البشر ولا تحفل بتدابيرهم، رزمت مريم ثيابها وصرت أجرتها في منديل وارته في صدرها، وعولت على الرحيل صباح الغد إلى حيفا عملا بإشارة عارف الذي أوصاها أن تنتظره في نزل هناك، فيوافيها بعد يومين ويسافر وإياها إلى بيروت.
ولسوء حظها وحظ عارف وحظ آل مبارك أجمعين أن ضيفهم أيوب حال تلك الليلة دون ذا التدبير، وأيوب مثل نسيبه يوسف مزاجا، إلا أن الغريزة «المباركة» أشد فيه وأخبث، فما كادت عينه تبصر مريم يوم وصوله حتى نهمت نفسه إليها، وجعل يترقب الفرص لقضاء وطره، فراقب حركاتها وسكناتها دون أن يدعها تدري بذلك، واستبشر لما علم أنها تنام وحدها، وأيوب أفندي لا يرى للمقدمات في مثل ذي الأعمال لزوما، فلم يستوقف مريم مرة، ولا كلمها، ولا نظر إليها إلا خفيا، ولا أظهر إعجابه مثل غيره بحسنها وذكائها، فإن هي في نظره إلا جارية مثل الكثيرات من الجواري اللواتي عرفهن، لا تستحق الالتفات إلا في حالة واحدة.
وعاد من المرج مساء ذلك اليوم وهو يفكر بالفتاة ويعلل النفس بقرب الوصول إليها ولم يحفل كثيرا بما رآه في وجوه أنسبائه من دلائل الكدر والهم، ولا سأل أحدا منهم السبب في ذلك، ولا ألح على الست هند في اللعب لما رفضت معتذرة ودخلت إلى غرفتها تضجع باكرا على غير عادتها، وكان ارتاح إلى السكينة في البيت تلك الليلة؛ لأنها أفضل لقصده وأجمل، فنهض عند نصف الليل وهو لا يدري ما حدث ذاك النهار والليلة السابقة، ومشى في فناء الدار المظلم مارا بغرفة عارف فسمع فيها صوت أوراق تمزق فلم يكترث، وسار مسرعا إلى السطح.
وكانت مريم قد أرقت تلك الليلة من شدة الهواجس والغم فجلست في فراشها تصلي إلى العذراء لتوفقها في بلاد الغربة ونور القمر وقد تسرب إلى داخل الغرفة ينير وجهها، فاعتراها وهي تصلي النعاس، ولما وقف أيوب في الباب رآها جالسة مسبحتها بيدها، ورأسها يميد فوق صدرها، ثم استفاقت مذعورة كأنها حلمت حلما مخيفا، وخيل إليها أن شبحا واقفا في الباب فرفعت رأسها وصرخت إذ رأت الغريب صرخة سمعها عارف في غرفته، ونهضت تسارع إلى السطح مستغيثة فقبض أيوب عليها وأسكتها متوعدا، فتنشنشت الفتاة في قبضته الشديدة ومادت إلى الأرض كغصن هصرته الريح، وما هي إلا لحظة، فلاح هناك خنجر ثلاث مرات كوميض البرق سرعة ولمعانا، فصاح أيوب: أمان! أمان! وخر من تلك الطعنات صريعا، فأيقظ الصراخ الخادمات في غرفتهن قرب السطح، ففتحت لطيفة الشباك فشاهدت عارفا يجر شخصا برجليه من غرفة مريم، ثم وقف بعيدا عنه مبهوتا مذعورا، ثم عاد فقبض عليه كالمجنون ورماه تحت السطح ، فوقع فوقه صندوق من صناديق الزهور.
فصاحت لطيفة صيحة أوقفت عارفا هنيهة في عمله وراحت تولول وتلطم خديها. - مريم، مريم! اخرجي من البيت حالا يجب علينا أن نهرب الليلة هذه الساعة، عجلي! عجلي! روحي قدامي، وانتظريني عند البيادر.
وأسرع عارف إلى غرفته يلبس ثيابه، ولكن الخوف غلب الفتاة وزعزع عزمها، فطفقت تدور في الغرفة كالمجنونة لا تدري ما تصنع.
وكانت قد استيقظت إذ ذاك الست هند، فجاءت تركض والخادمات يركضن وراءها، فلما رأت مريم في تلك الحال وشاهدت الدم والخنجر على الأرض صاحت وهي تلطم منكبيها، يا بنت الكلب من قتلت؟ قتلت ابني؟ يا باطل! يا باطل! قتلت عارفا يا يوسف، قتلت ... فقالت لطيفة تطمئنها: عارف في غرفته يا معلمتي، عارف في غرفته، وأخذت بيد سيدها فأرته ما تحت السطح.
وكان هناك بعض الجيران، وقد أيقظهم الصياح وهم يقولون، مات، مات. - الخواجا أيوب يا معلمي.
فصفق كفا على كف. - من قتله؟
فقالت لطيفة: لا أعلم، لا أعلم. - اخرجي يا هند، اتركي الخنجر مكانه، واتركي البنت، اخرجي.
अज्ञात पृष्ठ