ويوسف أفندي يحترم أخاه الراهب احتراما لا غش ولا تكلف فيه، ويرتاح إلى حديثه، ويجنح غالبا إلى رأيه، ولم يكن القس جبرائيل ليرتاب مرة في حبه لأخيه يوسف، ولقد طالما قال في نفسه، بيت أخي مثل ديري، وحبذا كرمه وعدله وإحسانه في سبيل إخواني الرهبان، ولقد أدرك كلا الأخوين شيئا من الحقيقة في نفسه وفي أخيه ولم يدركها كلها، فالسيئات تولد الحب مثل الحسنات، وضعف المرء يزين الضعف في سواه. أجل، فإن المرء يستأنس بنقص في أخيه شبيه بنقص فيه، ناسك يجوع جسده، وخليع يجوع نفسه، فالجوع إذن يجمع الاثنين ويؤلف بينهما.
لما ترك القس جبرائيل مريم في الكنيسة جاء توا إلى بيت أخيه فرآه يدخن الأركيلة ويشرب القهوة في فناء الدار وهو متربع على الديوان لابس فوق قميص النوم عباءة حرير زرقاء، فنهض هاتفا إذ رأى القسيس أخاه: ما شاء الله! ما شاء الله! على غير عادتك يا شيخ، ولكن الرهبان ينهضون باكرا. - صحيح، وينامون نصف النهار، الساعة الثالثة بعد الظهر هي نصف الليل عندنا. - هنيئا لمن ينامون، أنهكني الأرق، حرق ديني، وصفق كفا على كف فحضرت الصانعة. - هاتي جمرة، واعملي أركيلة وقهوة للقس جبرائيل. - لا، لا، لم أقدس بعد. - عجيب أمركم، ألا تشربون الخمر في القداس وتحرقون البخور؟ فالقهوة نوع من الخمر، والتنبك مثل البخور، يسرها، هاتي يا بنت أركيلة وقهوة. - يظهر أن الأرق ينفعك، أفلا ترى أنه يشحذ قريحتك ويجلو نفسك؟ ولعمري إن من يحسن الأسخان ... فقاطعه أخوه قائلا: المصيبة يا شيخ أنك دائما تدور الدورات «ممتطيا صهوة الفصاحة» هذه عبارة عربية تعجبك، سمعتها البارحة ففلقت ذهني وعلقت فيه، انزل إذن عن ظهر الفصاحة واجلس إلى جنبي، فإني والله مشتاق إليك، ما زرتنا منذ شهر، وإذا كنت تريدها بالملعقة فاعلم أن حضورك وليس الأرق يشحذ القريحة ويجلو النفس.
وجاءت إذ ذاك صانعة حسنة الوجه والقد والحركة، تحمل أركيلة عجمية فخمة في مائها ورد وياسمين، فأثبتتها على السجادة وقدمت النربيش ويدها اليسرى على صدرها إلى القسيس، فأخذه باسما وألقى به على الديوان، ثم جاءت صانعة أخرى بفنجان من القهوة في ظرف من الفضة على صينية من النحاس الشامي الثمين، فأخذه القس جبرائيل واستنشق منه قليلا، وقدمه إلى أخيه قائلا: بنكم عاطل جدا. - وعذرك مثل بننا، بالله قل لي، ما الفرق بين الاستنشاق والشرب وبين الشم والذوق، هل الفم لك والأنف لغيرك؟ - ما جئت هذه الساعة أباحثك في علم الفيزيولوجيا، كم خادمة عندكم اليوم؟ - عرضنا كل ما عندنا الآن. - اثنتان فقط. - والطابخة، ولكن تعرف امرأة أخيك فقد تطرد واحدة منهن أو تطردهن كلهن غدا، فهي لا تطيق خادمة عندها أكثر من شهرين والخادمات لا يطقنها يوما واحدا. - أعرف فتاة تعجبك. - لا يفيد، ينبغي أن تعجب الست هند. - وهذا ما أعنيه، تعجبها كثيرا، فتاة ذكية فهيمة خفيفة الحركة نشيطة بارعة، ولكنها عنيدة، وينبغي لكم أن تداروها في أول الأمر، الفتاة عزيزة علي، وقد أوصيت بها وهي لا تحب أن تخدم في الدير، وأحب أن تخدم عندكم لتظل تحت مراقبتي، أوصيك بها خصوصا. - وكم عمرها؟ - ست عشرة سنة. - وهل تحسن الخدمة؟ - كانت تخدم في غرفة المائدة. - وأين هي الآن؟ - عندي، تنتظرني في الكنيسة، سأجيئكم بها بعد القداس.
وهم القس جبرائيل بالانصراف، فمشى أخوه معه حتى الباب ثم قال: وما هذه الإشاعات التي يشيعونها عنك؟ كيف حالك وإخوانك الرهبان؟ سمعت البارح أن رئيس الدير ينوي أن ينقلك إلى لبنان. - لبنان أحسن من الناصرة. - والامرأة سارة التي توفيت البارح، أصحيح ما يقال: إنها ... - هي أم الفتاة التي حدثتك بشأنها. - أم الفتاة؟ أولم تكفك الأم وما أشاعوه عنها وعنك؟ - الله وحده يعرف ما في قلبي، الله وحده يدينني، ولا أسألك أنت يا يوسف غير أمر واحد؛ أن تساعدني في تربية هذه الفتاة، وأن ترمقوها بعين العطف والحنان وتعاملوها بالمعروف، سأجيئكم بها اليوم.
وعندما ودع أخاه كانت الست هند خرجت من غرفتها فرأت الراهب في الباب، فسألت زوجها: ما الغرض من زيارته؟ فأخبرها، فسرت بذلك؛ لأنها تتمكن إذا جاءت الخادمة الجديدة من طرد إحدى الثلاث عندها؛ أي الجميلة فيهن.
الفصل الرابع
مثل الست هند من النساء تدعى عند العرب الأخصائيين: امرأة زنمردة، ولكننا نكتب لأبناء العرب لا لأجدادهم ولجمهور الناس لا للأخصائيين، لذلك نتحرى البساطة في الوصف والتعبير، ولكن اللبيب إذا تدبر هذه اللفظة العبلة الرجراجة وحللها يجد فيها ألفاظا عديدة تدل على ذكاء واضعها وصفات المتصفة بها، كيف لا وفيها: «زنى» و«مرد» و«تمرد» وغير ذلك من مفاتيح أسرارها، ولكننا لا نرمي الست هندا بها؛ لأنها تكبر تارة على بعض معانيها وتارة تصغر عنها، ففي لغتنا وطريقتنا إذن نحاول أن نفيها حقها.
الست هند ربيبة السويداء وعشيرة الرهابين، كأنها أدركت قول الشاعر: «ولكل شيء آفة من جنسه» فراحت تداوي سويداءها بسود الثياب وسود اللحى، وكانت تتدخل في سياسة الأديرة لسد فراغ في وقتها، فتلعب بالرهبان كما تلعب بالقمار، وتدخن الأركيلة عند جثة خصمها كما لو كانت تقرأ في ديوان أحد شعرائها المحبوبين، وهي آية في الحفظ، ترغب بالمطارحة وتحب المكافحة، فترمي جليسها ببيت شعر من صفي الدين الحلي، أو زهير أو الفارض فتصرعه وتحرق فؤاده، ثم تزجر الخادمة وتضربها لإبطائها بكأس ماء أو فنجان كنياك، ولم تكن في الناصرة امرأة تحسن مثلها لعب القمار ورواية الأشعار وسياسة الرهبان وزجر الخدم، والسبب في غوايتها وأدوائها ظاهر بسيط، فقد تزوجت صغيرة، وخبرت الحياة الزوجية صغيرة، وكبرت صغيرة، اجتازت أربع مرات جحيم الولادة قبل أن تجتاز الخامسة والعشرين من سنها، ولم يعش من أولادها غير واحد ربي منعما، فنشأ مخنثا، فشب شقيا، تلقن شيئا من العلوم في كلية من كليات بيروت، فدفنه في مواخيرها وقهاويها قبل أن يعود إلى بيته، وتعرف برجال الشحنة وزار مرة السجن إتماما لدروسه، وكان يدمن الخمرة احتراما لأبيه ويقامر حتى الفجر توقيرا لأمه.
ولقد طالما استلفت القس جبرائيل نظر الأبوين إلى ابنهما عارف وحذرهما من عواقب أمره، فأغفلت الست هند نصيحة سلفها وكرهته؛ لأنه لم يكن مثل سائل الرهبان من عباد محاسنها، فلا يحضر مجلسها ولا يحرق البخور أمامها ولا وراءها، وما الراهب في عينها غير باب فرج للمرأة أو ستر لسوءتها، ومتى كانت المرأة مثلها كريمة المحتد ربيبة المجد ينبغي أن يكون الراهب خادما لها، وإذا كانت جميلة أيضا ففارسا من فوارسها ومجاهدا في سبيلها، ولكن محاسن الست هند ولت باكرا، فلم يبق منها غير سحر في لحظها وخلابة في لسانها، وحركة تغري عند إدبارها.
وكان بيتها صورة مجسمة لنفسها، يضج بالأمتعة الفخمة النافرة بعضها من بعض، ويمثل في كل غرفة منه مأساة كل يوم، فترى الذوق مذبوحا على الديوان، والترتيب مشنوقا في الدار، والاقتصاد مجندلا عند قدمي البذخ والإكثار.
अज्ञात पृष्ठ