الله يعلمُ ما تركتُ قتالهم ... حتَّى علَوْا فرسي بأشقرَ مُزبِدِ
وعلمتُ أنِّي إنْ أُقاتلُ واحدًا ... أُقتلْ ولا يضرُرْ عدوِّي مشهدي
فصددتُ عنهمْ والأحبَّةُ فيهمُ ... رَصدًا لهمْ بعقاب يوم مَرصدِ
ومن العجائب أن يُعير حسان أحدًا بالفرار من اللقاء، ومكانه من الجُبن المكان الَّذي لا يجهله من روى الأشعار، وعلم طرفًا من الأخبار.
وبلغني أنَّه كان يهاجي قيس بن الخطيم وكان فيما هجاه به قوله:
فلا تجزعنّ يا قيس وأربعْ فإنَّما ... قُصاراك أن تلقَى فألقى محمدا
فلما بلغ هذا البيت قيسًا قال: هذا حسان بن ثابت. قالوا: نعم، قال: لم يكن هذا كلامه يوم انهزم من أول السطح إلى آخره، ومن آخره إلى أوله.
وقال جرير يعير الفرزدق بنبوّ السَّيف عن قطع العلج الَّذي ضربه:
بسيف أبي رعوان سيف مُجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربتَ به عند الأمام فأرعَشَتْ ... يَداك وقالوا مُرهف غير صارم
فقال الفرزدق يجيبه ويعتذر من ذلك:
فهل ضربةُ الرُّومي جاعلة لكم ... أبًا عن كليب أو أبًا مثل دارمِ
فلا نقتل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقلَ الأعناق حملُ المغارم
وقال أيضًا:
وما نَبَا السيفُ من جُبن ولا دَهشٍ ... عند الأمام ولكنْ أُخِّرَ القَدَرُ
ولو ضربتُ علَى عَمْدٍ مقلَّدُه ... لخرَّ جُثمانه ما فوقهُ شَعَرُ
وما يعجِّل نفسًا قبلَ مِيتتِها ... جمعُ اليدين ولا الصّمصامةُ الذكرُ
وقال أيضًا:
فإن يكُ سيفٌ خان أوْ قَدَرٌ أبى ... لتأخير نفس حتفها غيرُ شاهدِ
وقال الطرماح:
لا عزَّ نصرُ امرئ أمسى له فرسٌ ... علَى تميمٍ يريدُ النَّصرَ من أحدِ
لو كانَ وَرد تميم ثمَّ قيل لها ... حوض النَّبيّ عليه الأزد لم ترِدِ
لو أنزلَ اللهُ وحيًا أن يُعذّبها ... إن لم تَعد لقتالِ الأزد لم تعدِ
وقال أيضًا:
نُبئت تيمًا محتذي حرب طيئٍ ... تَباركت يا ربَّ الخطوب الأوائلِ
وما خلقتْ تيمٌ وزيدُ مناتها ... وضبَّةَ إلاَّ بعد خَلق القبائلِ
لقد زادني حبًّا إليَّ تقبّضي ... بغيضٍ إلى كلِّ امرئ غير طائلِ
إذا ما رآني قطّع الطّرف بينه ... وبيني فعل العارف المتجاهلِ
ملأتُ عليه الأرض حتَّى كأنَّها ... من الضّيق في عينيه كِفةُ حابلِ
وقال آخر:
لحا اللهُ أهزلنا جارهُ ... وأسمننا حين نشتو فصالا
والأمنا عند غِبِّ اللّقا ... ء إذا ما دعوتُك عَمًّا وخالا
وأجبنا أسوةً في اللّقا ... ء إذا ما السُّيوف عَلوْن القلالا
وقال الفرزدق:
كأني علَى ذي الطبي عينٌ بَصيرة ... مُفَقّدة أوْ منظر هو ناظره
يحاذرُ حتَّى يحسب النَّاس كلّهم ... من الظنّ لا تخفى عليهم سرائره
وقال آخر:
كأنَّ بلادَ الله وهي عريضةٌ ... علَى الخائف المطلوب كفّة حابلِ
يؤدي إليه أن كلَّ ثنيَّةٍ ... تيمَّمَها ترميه منها بقاتلِ
وقال آخر:
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ ... رَبداء تفزعُ من صَفيرِ الصَّافرِ
هلاَّ برزت إلى الغزالة في الوغى ... بل كانَ قلبُك في جَناحي طائرِ
صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مناظره كأمس الدَّابرِ
وقال آخر:
جهلًا علينا وجُبْنًا عن عدوّكم ... لبئستِ الخلّتانِ الجهلُ والجُبُنُ
إذا رأوا خلّة طاروا بها فرحًا ... منِّي وما علموا من صالحٍ دَفنوا
وقال أبو تمام:
لو لم تراجعهم لراجعهم ... ما في صدورهم من الأوجالِ
قد أترعتْ منها الجوانح رهبةً ... بَطَلت لديها سورةُ الأبطالِ
لم يُكسَ شخصٌ فيئه حتَّى رمى ... وقت الزَّوال نعيمهم بزوالِ
برزت بهم هفوات علمهمُ وقد ... يُردي الجمال تعسُّف الجمَّالِ
وكأنَّما احتالت عليه نفسُهُ ... إذْ لم تنلْهُ حيلةُ المحتالِ
ترك الأحبَّة ساليًا لا ناسيًا ... عذرُ النسيِّ خلافُ عذر السَّالي
ما زالَ مغلوبَ العزيمة سادرًا ... حتَّى غدا في القيد والأغلالِ
1 / 186