وإنَّ البيت الثالث من هذه الأبيات ليس من الكلام الَّذي لا يقع مثله في النَّدرات ولئن كان صادقًا فيما قال إنَّه من صون إلفه لعلى حالٍ توجب له غلبة الوفاء بعهده والرِّعاية لودِّه إنَّ امرءًا يثق من وجده بأنَّ الإشاعة لذكره تدعو المستوطن الآلف إلى مفارقة الوطنين وطن روحه ووطن جسمه ثمَّ يترك ذلك ويتجشَّم مضاضة الكتمان في قلبه على الإشارة بذكر إلفه بما عساه غير مؤدٍّ إلى ضرره لشديد الإبقاء على إلفه ولمتمكِّن القدر على نفسه لأنَّ من ملكه الشّوق ملكًا صحيحًا عجز لأن لا يكون سرّه تصريحًا على أنَّ صاحبنا قد عرّض تعريضًا مليحًا بذكره لموضع إقامة قلبه إذْ هو بلا شكٍّ موضع إلفه وإنِّي لأستطرف قول نبهان العبشمي:
أما واللهِ ثمَّ اللهِ حقًّا ... يمينًا ثمَّ أُتبعُها يمينا
لقدْ نزلتْ أُمامة من فؤادي ... تِلاعًا ما أُبحنَ ولا رُعينا
أظلُّ وما أبثُّ النَّاسَ أمري ... ولا يخفى الَّذي بيَ فاعلمينا
أذودُ النَّفسَ عن ليلَى وإنِّي ... ليعصيني شواجرُ قد صدينا
يرينُ مشاربًا ويُذدنَ عنها ... ويُكثرنَ الصُّدودَ وما روينا
فهو أعزَّه الله لم يرض بتسميةٍ واحدةٍ حتَّى سمَّى اثنتين سمَّى الَّتي هو مقبلٌ عليها والَّتي هو يجب الانصراف عنها ثمَّ لا يسكت مع ما جناه حتَّى يمتنَّ بأنه يكاتم هواه ليت شعري ما الَّذي بقي عليه أن يخبر به بعد وصفه لمحلِّ من يهواه من قلبه وإخباره في الشِّعر باسمه ولولا أنَّ هذا بابٌ لا يحتمل لمن ذكرت حاله فيه ما يحتمل لمن ذكر في الباب الَّذي يليه لصفحنا عن هذا وأضعافه.
ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول:
رماني بها قلبي فلمْ يُخطِ مقتلي ... ولم يكُ من يرمي تصاب مقاتلُهْ
فإنْ متُّ فابكوني قتيلًا بطرفها ... قتيلَ عدوٍّ حاضرٍ ما يزايلُهْ
شكى وكنى عمَّنْ أحبَّ ولم يبُحْ ... بأكثرَ من هذا الَّذي هو قائلُهْ
وإنَّ أحقَّ النَّاسِ أنْ يكثُرَ البكا ... عليهِ قتيلٌ ليسَ يُعرفُ قاتلُهْ
وأحسن مسلم بن الوليد في قوله:
عندي وعندكَ علمُ ما عندي ... من ضُرِّ ما أُخفي وما أُبدي
لا أشتكي ما بي إليكَ ولوْ ... نطقتْ بهِ العبراتُ في خدِّي
وجدي عليكَ أراهُ يُقنعُني ... من وصفِ ما ألقى منَ الوجدِ
فإذا اصطبرتُ علَى السكوتِ فلمْ ... أنطقْ فممَّا بي منَ الوجدِ
وأحسن الَّذي يقول:
وإنِّي لأُغضي الطَّرفَ عنكِ تجمُّلًا ... وقلبي إلى أشياءَ عطشانُ جائعُ
فلا يسمعنْ سرِّي وسرَّكِ ثالثٌ ... ألا كلُّ سرٍّ جاوزَ اثنينِ شائعُ
وأحسن سوار بن المضرّب حيث يقول:
إنِّي سأسترُ ما ذو العقلِ ساترهُ ... من حاجةٍ وأُميتُ السرَّ كِتمانا
وحاجةٍ دونَ أخرى قد بدأتُ بها ... جعلتُها للَّتي أخفيْتُ عُنوانا
إنِّي كأنِّي أرى مَنْ لا حياءَ لهُ ... ولا أمانةَ وسطَ النَّاسِ عُريانا
وقال كثير:
وقد زعمَتْ أنِّي تغيَّرتُ بعدها ... ومن ذا الَّذي يا عزُّ لا يتغيَّرُ
تغيَّرَ جسمي والخليقةُ كالذي ... عهدْتِ ولم يخبرْ بسرِّكِ مُخبرُ
وقال ذو الرحل لقمان بن توبة القشيري:
خليليَّ سيرا فاسألا أمَّ عاصمٍ ... لنا عن بقيَّاتِ العهودِ القدائم
ألمْ تعلمي يا عمرَكِ اللهُ أنَّني ... بذكركِ هدَّاءٌ علَى النَّأيِ هائم
وإنِّي علَى الهجرانِ يا أمَّ عاصمٍ ... أدومُ علَى عهدِ الخليلِ المكارم
إذا السِّرُّ عندي من خليلٍ تضمَّنتْ ... به النَّفسُ لم يعلمْ به الدَّهرَ عالم
ترى بينَ أحناء الفؤادِ وضمِّهِ ... إلى القلبِ أحناءَ الضُّلوعِ الكواتم
وقال الحسين بن الضحاك:
أيا منْ سروري به شقوةٌ ... ومن صفوُ عيشي بهِ أكدرُ
تجنَّيْتَ تطلبُ لمَّا مللْتَ ... عليَّ الذُّنوبَ ولا تقدرُ
وماذا يضرُّكَ من شهرتي ... إذا كانَ سرُّكَ لا يُشهرُ
أمنِّي تخافُ انتشارَ الحديثِ ... وحظِّيَ في سترهِ أوفرُ
ولو لم يكنْ فيَّ بُقيا عليكَ ... نظرتُ لروحي كما تنظرُ
وقال بشار بن برد:
كتمْتُ عواذلي ما في فؤادي ... وقلتُ لهمْ لِيُتَّهمَ البعيدُ
1 / 121