70

यूनुस फी बट्न हुत

يونس في بطن الحوت

शैलियों

كان الإغريق يسمون الفرصة «توخي». بالطبع ليس الإغريق مجهولين لك؟ هل تقول إن العرب أيضا نقلوا تراثهم إلينا؟ ألست أكاديميا وأدرى مني. كانوا، كما نعلم، يصورون كل شيء بالأساطير. كل فكرة عندهم يقابلها مخلوق حي مجسم. هل تعلم كيف كانوا يصورون التوخي؟! فتاة حسناء تنسكب خصلات شعرها على جبينها. نعم على جبينها. حتى يستطيع الإنسان أن يتشبث بها، أن يقبض على شعرها قبل أن تفلت منه. والويل لمن تفلت منه الفرصة! والويل لي أيضا فقد فاتتني. أدارت ظهرها لي قبل أن أمد يدي لأمسكها من خصلات شعرها. كنت أحسب أنها ستعود. لكنها لا تعود أبدا. لا تعود. تقول كيف؟ جاءت الحرب كما تعلم وطلبوا هانز. هل قلت لك إن اسمه كان هانز؟ حسن. أستطيع إذن أن أكمل كلامي. إلى هنا والفرصة لم تفت. كان يمكن أن أمد يدي فأمسك بخصلاتها الحريرية المغرية. ولو للحظات. لو كنت فعلت ما كان يهمني بعد ذلك ما يحدث. قال لي آخر مرة في المعهد: غدا أسافر يا كلارا. قلت: إلى أين يا هانز؟ قال وهو يمد يده يفتش عن يدي: ليس للنزهة بالطبع. فهمت ما يعني، فأطرقت وكتمت شلال الألم الذي يوشك أن ينفجر من عيني بعد أن طال إنكاري له. قال بعد لحظة صمت: هل أنتظر أن تكوني في وداعي؟ قلت في صوت تعمدت أن يكون جافا لكيلا يشي باضطرابي: ربما. آه يا سيدي! لماذا نحاول أن نخفي ضعفنا أمام أحبابنا؟ أليس لهم حق أيضا في دموعنا؟ ذهبت للمحطة. كانت تغلي بأفواج المسافرين. ما من شاب إلا ومعه زوجته أو عروسه أو صديقته. وأنا أقف مع هانز، وجها لوجه، الصمت يكبلنا، الخجل يشلنا. لا كلمة ولا لمسة ولا دمعة، ليس هناك شيء أشد خجلا من أن يخجل الإنسان من إظهار عاطفته. اللغط يشتد. الصراخ والبكاء من حولنا يحرك الصخر. القطار يصفر. حراس القطار يدفعون الشبان دفعا إلى القطار. وأنا هناك صخرة محرومة من نعمة الصخور. وفي لحظة شعرت بشفتي هانز على شفتي. لم تكن ذراعه تجد الوقت لتطوقني. لم تكن إلا لثمة واحدة. سريعة وملهوفة وتكاد أن تموت من الخجل. هل تدري ماذا فعلت؟ لم أفعل شيئا على الإطلاق. وحين تحرك القطار وراح يشير إلي بيديه رفعت ذراعي وأخذت أشير. بلا حماسة ولمجرد التقليد في أول الأمر ، ثم في حماسة أخذت تزداد حتى وجدتني أجري وأجري وراء القطار. لكن الوقت فات. و«توخي» أعطتني ظهرها، وخصلاتها السوداء الناعمة أفلتت إلى الأبد. لا أعلم ماذا حدث لي بعد ذلك. فلم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقاة على أرض الرصيف، وحارسان من حراس المحطة فوق رأسي يرشان الماء على وجهي ويقومان بالتنفس الصناعي لي. وحين فتحت عيني وجدتهما يتحسسان رأسي بحنان ويقول أحدهما: هل تقتلين نفسك إذن؟ أمن يؤدي واجبه نحو الوطن يستحق منك كل هذا البكاء؟ ونظرت حولي فوجدت المحطة خالية والريح الباردة تبكي في أرجائها. شكرت الحارسين وقمت أتعثر في خجلي. كنت أحس بأن هذه هي آخر مرة أرى فيها هانز. لو أنني لمست يده فحسب؟ لو أنني بادلته قبلة؟! لكن لا بأس. إن الإنسان يدفع ثمن لحظة ضعيفة بعشرين سنة، وربما تقول ألم تكن أمامك فرص أخرى؟ هل انقرض الشباب من على وجه الأرض؟ بالطبع تأتي الفرص كثيرة. والشباب أيضا موجودون في كل مكان. لكن ماذا تفعل فيمن خاب أمله في نفسه؟ من الذي يهمه أن يعيد إليك ثقتك بنفسك حين تفقدها مرة؟ تخرجت من المعهد واشتغلت بالتدريس، وحين اشتدت الحرب في سنواتها الأخيرة وأخذوا منا تلاميذ المدارس لم يبق أمامي إلا أن أعزف للعجائز والمشلولين في البيوت أو للجنود في المعسكرات، وحين دخل الحلفاء بلادنا كانت مهمتي أن أعزف للعساكر في البارات والقشلاقات، هل تتصور أن تساعد موسيقى باخ على السكر أو الفجور؟ ثم إنني كنت أنفع بشيء آخر، فاللغات التي يتعلمها الإنسان لا بد أن يحتاجها ذات يوم، نعم كنت أشتغل مترجمة لخطابات الحب - إن جازت هذه الكلمة - التي يرسلها الجنود إلى بناتنا، وبالطبع كنت أكسب، على الأقل لم أمت من الجوع. لماذا لم يلتفتوا إلي؟ وهل يطمع فيك أحد إذا كنت تضع نفسك في صفيحة القمامة؟! وأين الفرصة التي تقدم نفسها إليك بعد الآن؟ لا أنكر بالطبع أن الكثيرين ناموا معي ولا إنني نمت مع الكثيرين. لكن «توخي» ذات الشعر الناعم المنسدل على الجبين الناصع الشفاف، من أين تأتي إن أدارت ظهرها مرة واحدة؟! كيف تعود إن ذهبت إلى الأبد؟! لا. لم تعد قط بعد ذلك. ماذا؟ هل تقول إنني بكيت كثيرا؟ حقا؟! شيء غريب. أنا نفسي لم أحس بهذا، معك حق، لا بد أن أجفف عيني، أشكرك. يا إلهي! وأنت أيضا تبكي، هذه دمعة تجري على خدك، احتفظ إذن بالمنديل لنفسك. أأنت أيضا فاتتك «توخي»؟ لم تمد يدك في الوقت المناسب لتتشبث بشعرها؟ لا تقل هذا. وماذا أقول أنا إذن؟ من يدري؟ ربما كان في العمر بقية لزيارة أبي الهول. ستكون معي بالطبع. أعدك أنني لن أتكلم كما تكلمت اليوم. أبدا أبدا. هل تسمح لي بطابع البريد؟ صحيح أنك تستغني عنه؟ يا له من وجه عجيب. تصور أنه يبتسم، هذا الصامت الأبدي يبتسم، لا بد أنه يضحك علينا، وعليك أنت بالطبع أكثر، لن أتركك حتى تبتسم مثله، مهما حاولت. نعم، من فضلك، هكذا.

1965

अज्ञात पृष्ठ