162

وتتم الفجيعة بعد هذا كله بالصياح على غردون الشهيد، وبالحقوق الشرعية التي ترتبت على هذا الاستشهاد المطبوخ، وإن «فضل» المنقذين فيه لأكبر من فضل المعتدين. •••

أما حادث الذخيرة، أو «الجبخانة» كما اشتهر في وقته، فهو أول ثورة مسلحة على الاحتلال، تعاون فيها الجيش المصري والجيش السوداني وشعب السودان.

ويعزوها ونجت إلى تحريض الضباط المصريين، الذين أدخلوا في روع الجند السودانيين أنهم سينقلون إلى أفريقيا الجنوبية لتسخيرهم في حرب الترنسفال، بعد الهزائم التي تعاقبت على الإنجليز بقيادة كتشنر هناك، وشاع على الألسن أن كتشنر طلب التعجيل بإرسالهم؛ لأنهم قاتلوا بقيادته وقاتل معهم، فاختبرهم واختبروه، فهم أنفع له في حرب البوير من الفرق الإنجليزية التي كان يقودها هناك.

إلا أن ثورة «الجبخانة» من الحوادث التي رواها الكثيرون، ووصفها الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم بحذافيرها من المبدأ إلى الختام، وقد كان من شهودها كما كان من ضحاياها، وطابق وصفه لها روايات الشهود من المصريين والسودانيين.

قال حافظ إبراهيم في كتابه ليالي سطيح: «صدرت مشيئة القائم بالأمر في السودان بجمع ذخيرة البنادق من أيدي الجنود، فتساءل الناس عن هذا النبأ، ومشى بعضهم إلى بعض، وأرجفوا يومئذ بسقوط الوزارة وانحراف الأمير عن القوم، فكثر التأويل كما كثر القيل، فتنبأت طائفة منهم أن سبب هذه المشيئة هو التحرز والتوقي من انتقاض الجيش، وقد نمى خبر خذلانهم أو أوليات الحرب الترنسفالية، وظنت طائفة أخرى أن سببها هو ذلك الفتور الذي زعموا أنه وقع بين الأمير والقوم، وقال ذوو الأسنان إنها محنة من محن السياسة يبلون بها طاعة الجيش ...»

وبين هذه الأراجيف التي أطال حافظ إبراهيم في التعقيب عليها، شاعت حقا مسألة الندبة إلى حرب الترنسفال، وكان المصريون والسودانيون جميعا يعطفون على هؤلاء القوم؛ سخطا على الاحتلال والسيادة الأجنبية، لا حبا للبوير، ولا معرفة بما هم أهله من العطف والمعونة.

وكان «ونجت» هو الذي تكفل باستكشاف أسرار المؤامرة كما سماها ، وتهدئة الخواطر بغير حاجة إلى استخدام السلاح، كما خطر لكرومر حين أشار بإنفاذ فرقة أو فرقتين من جيش الاحتلال إلى الخرطوم.

فلا جرم تشاب الرواية هنا وفي مأساة غردون بشائبة الهوى، أو بحب الدفاع عن الخطة التي كانت له يد في رسمها وتنفيذها؛ بموافقة رؤسائه تارة، وبغير موافقتهم تارة أخرى.

مصر والعرب

ولكننا لا نختم الكلام عن الكتاب بحقائقه وأباطيله دون أن نعترف لمؤلفه رونالد ونجت بعطفه على الجانب المصري، حين يتفق العطف عليه مع الدفاع عن سياسة أبيه.

अज्ञात पृष्ठ