أصعد السلم إلى الشقة، ويقف هو أمام شقته كأنما ليطمئن علي حتى أبلغ بابي. ودعني بقبلة فاترة شأن المهموم بأفكاره. لعنة الله على المدير. استفزه بلا سبب. ظل طول الوقت كئيبا مغتما. أفهم ذلك جيدا، ولكن ألا يثق بي؟! لا مساحة عندنا لمزيد من القلق. رائحة الملوخية تجول في الشقة، ما أشد استجابتي لها! أبي نائم فوق مقعده. ألثم جبينه فيختلج جفناه. يبتسم بحنان. هزلت وضعفت. لعنة الله على الروماتزم. محتشمي بك جد حبيبي أقوى منه عشر مرات رغم أنه يكبره بعشر سنوات. صوت ماما يعلن أن السفرة جاهزة. أحب الملوخية، ولكن ماما لا تعجبها شهيتي. كثيرا ما تقولي لي: النحيف لا يقاوم الأمراض.
فأقول لها: البدانة أيضا ضارة. - عنيدة، إن قلت يمينا قالت شمالا.
ماما بدينة، وكانت كذلك من قديم، تصلي وهي قاعدة على الكنبة؛ من أجل ذلك يكتنفني الحذر عند تناول الطعام. ظنت نفسها غنية بدخلها البالغ خمسة وعشرين جنيها في الشهر. لعلها كانت على حق في الأيام الأسطورية التي تحكى لنا، أي قيمة اليوم لدخلها ومعاش بابا ومرتبي جميعا؟!
ركب أبي طاقم أسنانه الذي لا يستعمله إلا حين تناول الطعام، وراح يأكل على مهل ويشكو شدة البرد. انضمت أختي المطلقة سناء التي تشاركني حجرة نومي. إنها تدرس السكرتارية في معهد خاص لتجد لها عملا فلا تكون عالة على أحد. بعد الغداء استلقيت على فراشي، فعاودتني ذكرى القبلة الفاترة. لا أحب هذا. إهانة أو ما يشبه ذلك. إذا تكرر ذلك فسوف أصارحه: لا تقبلني إلا وأنت تحبني، لا يشغلك شيء عن حبي، ماذا بقي لنا سوى الحب؟! أراعيه كأنما أنا أم وكأنما هو ابن مدلل متمرد. آه لو أمكنه أن يكون مهندسا! كان «زمنا» من أبطال الانفتاح لا من ضحاياه، وضحية أيضا ل 5 يونيو واختفاء البطل المنهزم، حائر لا موقف له. حتى متى؟ يحتقر السابقين ويؤمن بأنه خير منهم، لماذا؟ متى ينظر إلى نفسه نظرة ناقدة موضوعية؟ لعله دوري وواجبي، ولكني أخشى على الشيء الباقي الوحيد؛ حبنا. أحبه والحب لا عقل له، أريده بكل قوة نفسي. كيف؟ ومتى؟ أختي سناء تزوجت عن حب وقنعت بالثانوية العامة ونصيب ست البيت، وشاب من ذوي الأملاك ثم لم توفق، ومات الحب. الاتهامات انصبت كالعادة على الطرف الآخر، ولكنها عصبية، تثور كالبركان لأتفه الأسباب؛ فمن يحتمل ذلك؟! من أجل ذلك تعودت على أن أحذر الغضب كما أحذر الإفراط في الطعام. متى تتيسر تلك السعادة الملعونة؟! حتى متى يصمد الجمال أمام الزمن الجارف؟ لا ولم أعرف أنني نمت إلا بحلم رأيته. قمت عصرا .. لاطفت قطتي دقيقة .. صليت العصر والظهر معا. شكرا لماما؛ فهي مربيتي الدينية. أما بابا! ماما زوجة موفقة رغم فارق السن بينها وبين بابا ورغم لادينية بابا! أتذكرين محاسبتك له في الزمان الأول؟ - بابا، لم لا تصوم مثلنا؟
يقول ضاحكا : الصغيرة تحاسب أباها. - ألا تخاف الله؟ - الصحة يا حبيبتي، لا يغرنك مظهري. - والصلاة يا بابا؟ - أوه .. سأحدثك عن ذلك عندما تكبرين.
ليس كذلك الحال في شقة حبيبي. الجد والأب والأم يصلون ويصومون. لادينية أبي اليوم ساطعة مثل شيخوخته ومرضه. لم يتفوه أبدا بكلمة مريبة، ولكن في السلوك ما يكفي، في ثورات غضبه يسب الدين. ربما استغفر الله إرضاء لي أو لماما كشعار ليس إلا كسائر الشعرات الجوفاء التي تنهال علينا من أفواه المسئولين. زمن شعارات مقزز، حتى الراحل البطل لم يعف عن ترديد الشعارات، وبين الشعار والحقيقة هوة سقطنا فيها ضائعين، ولكن ما حبيبي؟ .. متدين؟ .. لا ديني؟ .. ملتزم؟ .. لا ملتزم؟ علياء سميح؟ .. محمود المحروقي؟! .. آه .. إنه حبيبي وكفى، ورزقي على الله. دائم البحث عن شيء مفقود. لو حلت مشكلتنا لعرف لنفسه مرفأ، ينطح الصخر ويقبض على الهواء. حجرة المعيشة تجمعنا .. أبي بمرضه وشيخوخته وإلحاده، ماما وبدانتها المفرطة وهموم الآخرين، سناء وضيقها بوضعها وشعورها الأليم بالغربة، أنا ومشكلتي المزمنة. في الظاهر والداي قد أتما رسالتهما، فأي سخرية! ها هو التحقيق الصامت يحاصرني. ماذا بعد خطبة طالت أحد عشر عاما؟ ألا يوجد بصيص أمل؟
تقول سناء بصوتها الرفيع الحاد: لتنتظر حتى تترمل وهي مخطوبة!
فأقول لها بصرامة: لا شأن لك بي.
فتقول ماما: ذكريه يا رندة كي لا ينسى. - نحن نعيش همومنا كل دقيقة؛ فلا داعي للتذكير.
ثم بمزيد من الحدة: إني رشيدة، اخترت سبيلي بملء حريتي، ولن أندم على شيء.
अज्ञात पृष्ठ