ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
والإسلام يعترف بنبوة الأنبياء السابقين؛ فنوح وإبراهيم إسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس أنبياء مصدقون. ويقرر أن أساس تعاليمهم واحد، وكلها من عند الله؛ فلا غرو بعد ذلك كله أن يكون الإسلام سمحا مسالما، حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين جادلوهم بالحسنى:
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ، بل نرى في العهد المدني في أول الأمر مثل قوله - تعالى:
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ، وقوله:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، ولكن يظهر أن اليهود والنصارى في العهد المدني بعد ذلك وقفوا أمام الدعوة الإسلامية، يهاجمونها، ويضعون الخطط لخنقها، ويتحالفون مع الوثنيين في الكيد لها، والنيل منها، فاضطر الإسلام أن يقابل الشدة بالشدة والكيد بالكيد؛ فعلت نغمة القرآن في التنديد بأهل الكتاب، ووصف أساليبهم القديمة، وخاصة اليهود وما فعلوه مع أنبيائهم، فكان موقف المسلمين منهم موقف الدفاع لا الهجوم، ومع ذلك فقد سمح لليهود والنصارى أن يؤدوا شعائرهم في المدينة، ونصح الرسول معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن بألا يكره يهوديا على الإسلام، وفي كتابه إلى نصارى نجران سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم، وأن يتبعوا دينهم، وأن تحفظ لهم كنائسهم، وألا يتدخل في شئونهم ما وفوا بعهودهم.
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أهل الكتاب، وأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل لما فتحت فارس عومل أتباع زرادشت معاملة أهل الكتاب، ولئن قسا الإسلام بعض الشيء على الوثنيين دون أهل الكتاب؛ فلأنه يرى أن الوثنية انحطاط في الإنسانية يجب علاجها، وانتشال الإنسانية من حضيضها، وعلى هذا سار المسلمون في أكثر تاريخهم، على حسن معاملة أهل الكتاب، يحمونهم ما دفعوا الجزية، ويسمحون لهم بالعبادة في بيعهم وكنائسهم، وهذه الجزية إنما شرعت بدل تجنيدهم؛ لأنهم لا يأمنون جانبهم إذا جندوا، ولا يثقون بغيرتهم الحربية، فليدفعوا بدل القتال شيئا من المال لحمايتهم. ولو قرنت معاملة المسلمين في دولهم لليهود والنصارى بمعاملة النصارى للمسلمين في دولهم لتبين إلى أي حد كان التسامح عند المسلمين وفقدانه عند النصارى، حتى ليصح للمسلمين أن يفخروا بتشريع الفقهاء الأولين في معاملة أهل الذمة، وبتطبيق ذلك عليهم في مختلف العصور.
نعم حدثت في التاريخ أحداث كثيرة لا تتفق وهذا التسامح الكريم، ولكن إذا دققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى أسباب أكثرها غير ديني، سواء في ذلك الاضطهاد الذي حدث بين المذاهب الإسلامية بعضها وبعض، أو بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى. من أهم هذه الأسباب السياسية؛ فالنزاع بين الحكومة الإسلامية والخوارج في العهد الأموي وصدر العباسيين سببه أن الخوارج بتعاليمهم يريدون أن يتولى الحكم أصلح الناس ولو كان عبدا حبشيا، ولا يعترفون ببيت أموي ولا بيت عباسي، ويريدون أن يصلوا إلى مبدئهم بالقوة، فاضطرت الحكومة الأموية والحكومة العباسية أن تحفظ كيانها وتحمي بيتها في الخلافة بمحاربة الخوارج والقضاء عليهم، وهذا سياسة لا دين.
وانظر إلى النزاع الحاد والدماء المسفوكة بين السنية والشيعة طول العهد الأموي والعباسي وبعد ذلك، وما جرى بسببه من دماء تجري أنهارا؛ تجد سببه أن أهل السنة من أمويين وعباسيين وغيرهم يرون الحق في خلافتهم، ويرى الشيعة أن لا حق لهؤلاء في الخلافة، وإنما الحق لأهل البيت وكل يعمل على أن يصل إلى حقه بقوة السلاح، فالنزاع إذن نزاع على من يتولى الحكم وهذه سياسة لا دين. وأحيانا يقوم بالدعوة الدينية رجال يدعون إلى مذاهب هدامة، ويتسترون باسم الدين، وتخشى الحكومة إن سادت تعاليمهم أن تنهار قوتها فتضطر إلى محاربتهم، وشكل الحرب شكل ديني وحقيقته سياسية. وكثير ممن خرجوا على الدولة العباسية كانت حقيقة أمرهم الرغبة في إعادة الحكم للفرس، ككثير ممن قتلوا تحت ستار الزندقة في عهد المهدي العباسي وبتهمة المانوية. وقد يستثنى من ذلك الاضطهاد الذي حدث من المأمون والواثق لمن لم يقولوا بخلق القرآن، فقد كانت هذه نظرة دينية خاطئة من المأمون والواثق؛ إذ ظنا أن من لم يقل بالاعتزال وبخلق القرآن؛ فقد أفسد دينه فهما يريدان إصلاح العقيدة قسرا وجهرا كما فعل المسلمون الأولون إزاء الوثنيين، وهذا خطأ كبير في التفكير نتج عنه أضرار جسيمة للمسلمين.
ومن العداء السياسي ما كان بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية، فالعداء بينهما عداء سياسي اتخذ شكلا دينيا؛ يريد العثمانيون الأولون أن يمدوا سلطانهم على الفرس، ويأبى الفرس إلا أن يحتفظوا باستقلالهم، فيئول ذلك إلى البغض الذي بلغ مداه في عهد السلطان سليم الأول، حتى كان اضطهاده للشيعة في مملكته أن قتل وسجن ما يقرب من أربعين ألفا. ولكن من الخطأ تحميل الدين جرائر السياسة، بدليل أن كثيرا من هذه الخصومات السياسية حدثت بين أمم إسلامية مختلفة تعتنق عقيدة واحدة سنية أو شيعية، وإنما كان الخلاف بينها على السلطان وسعة الحكم ونحو ذلك.
ولسنا ننكر أن كثيرا مما حدث في التاريخ من اضطهاد المسلمين للنصارى واليهود كان ناشئا عن كراهية دينية وغيرة إسلامية، ولكنها كانت غيرة عمياء من بعض من أصيبوا بضيق النظر وفهم الدين فهما خاطئا، أو كان ردا لما يبلغهم عن اضطهاد المسيحيين للمسلمين، فيضطرون أن يعاملوهم معاملة المثل جزاء وفاقا، ولكن من الظلم أن نحمل الدين الإسلامي هذه الأخطاء أيضا.
अज्ञात पृष्ठ