فلما سمع ذلك امتقع لونه وقال بصوت غضوب: ماذا تقول؟! أليس هو ابني وحشاشة كبدي؟! اسكت يا قاتل.
فجاوبته بلطف: يا سيدي، أنا سألتك بحرمة البيت الحرام أن تخبرني بالصدق لأن ذلك يخفف عني متاعب الدنيا.
فأجاب مغضبا: ماذا تقول؟ وما هي متاعب الدنيا التي تتخلص منها بإخبارك عما إذا كان هو ولدي أو غير ولدي، «أسفا عليه، فلا يفيد بكاء»؟ - سيدي، بالله ألا ما أخبرتني بالحقيقة فقد بلغني أنه ليس ابنك، وكن واثقا أن الذي أمامك رجل شريف المبدأ لا يبوح بالسر. - وماذا يعنيك إن كان ولدي أو غير ولدي؟ - يعنيني كثيرا، فإنه إن لم يكن ولدك فإنه شقيقي.
فلما سمع هذه العبارة قال لحاشيته: اذهبوا خارجا، والتفت إلي بعد صمت استغرق زمنا طويلا، وقال: أنا أستغرب أمرك أيها الشاب، ويظهر لي صدق ما تقول لأن ملامح وجهك تشابه شريفا تمام المشابهة، فأخبرني شيئا عن أمرك قبل أن أخبرك بأمري.
فقلت له: أما أنا فشاب مصري.
فاستغرب جدا وقال: مصري؟!
فقلت: نعم مصري، ولقد حضرت هنا للبحث عن شقيق لي تركه والدي صغير السن في سنة 1295، ومضت علي ستة أشهر بحثت في خلالها عنه فلم أهتد إليه، ففي الليلة الماضية جاءني الخادم وأخبرني أن شابا يدعى شريفا يقتل هذه الليلة بواسطة بعض لصوص تآمروا عليه، فسألته عن ذلك الشاب المسكين فقال إنه ابن مولاي شرف الدين والناس تقول إنه ليس ابنه بل تبناه، ولما وصفه لي وقال إن له خالا على خده الأيمن، تحركت في عواطف المحبة الأخوية وعزمت على إنقاذه ولو عدمت حياتي، ومن تعاستي وسوء حظي لم أره إلا مقتولا بيد هؤلاء الأشقياء - لا بارك الله فيهم - فلم أتمالك أن قتلت أحدهم، ويعلم الله أنها أول مرة ارتكبت فيها جريمة القتل، ولما وقع نظري عليه في ضوء المصباح حدثني قلبي أنه شقيقي، فهل أنا مصيب في ظني يا سيدي؟
فلم يجب، بل جلس مفكرا نحو ساعة كنا نسمع فيها عويل النساء وبكاء الأولاد ولم نتمالك من البكاء، ثم قلت له: يا سيدي، أسرع بالجواب لأودعه الوداع الأخير، فإن فؤادي ينفطر من هذه الحالة.
فقال ودموعه تسيل على خده: اسمع يا ولدي، إن شريفا ليس ابني وإنما هو ابن رجل مصري تركه عند مرضعة ولدي الصغير الذي مات في ذلك الوقت فأخذت شريفا منها وربيته أحسن تربية، فإذا صدق ظني فأنت شقيقه لا محالة.
فلما سمعت هذه العبارة طفح البكاء وتزايدت ضربات القلب، وقمت مسرعا لا أعي وخرجت كالمجنون، وما فتحت الباب حتى أمسكني الخدم وشرعوا يضربونني ضربا عنيفا ظنا منهم أنني قمت هاربا من أمام مولاي شرف الدين، وزاد الضرب من كل الموجودين الذين كانوا يظهرون مرارة الحزن بشدة الصفع والضرب فوقعت مغشيا علي منهوك القوى لا أعي ولا أفقه ولم أدر بعد ذلك ماذا جرى، وقد علمت فيما بعد أن مولاي شرف الدين لبث غارقا في بحار الهموم ساعة من الزمن كنت فيها أتحمل الضرب العنيف، ولما قام ليرى شريفا ورآهم يضربونني صرخ بهم، وجاءوني بالمنعشات حتى فتحت عيني، وسألتهم رؤية شريف فحملوني إليه ولما وقعت عيني عليه لم أتمالك من البكاء، وشرعت أقبله بين عينيه قائلا: هذه قبلة والدك الذي كلفني بتوصيلها إليك وهو يعالج سكرات الموت.
अज्ञात पृष्ठ