وإذا رزقت معه بأولاد، فبثي فيهم روح الفضائل من الصغر، ورأس الفضائل الدين وحب الوطن. وإذا مت غريبا عن بلادي فاذكريني لأولادك.
فبكت حين سمعت ذلك، فقلت لها وفؤادي يكاد ينفطر من الحزن: «لا تظني أن كلامي صادر عن جفاء أو عدم محبة، لا، فإنني أحبك حبا لا مزيد عليه، كنت أحبك حب خطيبة فصرت أحبك حب شقيقة، فاذكريني ولا تنسيني فإن ذكراك تنعش فؤادي إن حيا، وتسر روحي إن ميتا». - لا سمح الله بذلك! وإني أعاهدك على أن لا أتزوج بغيرك، فإذا عدت سالما كنت زوجي، وإلا فإني أعيش وأموت حافظة عهدك. - هذا الكلام تقولينه الآن كما يقوله أمثالك، نعم إنه صادر من صميم فؤاد، إلا أن طول الزمن يغير ما في الفكر، وهذا أمر أثبتته التجارب وأيدته الحوادث؛ «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، وأنا بصفتي أخيك أحب سعادتك فلا تعلقيها على سعادتي فإني براء منها؛ فتكوني كمن يبني قصورا في الهواء.
ثم أخرجت لها من جيبي صورتى، وقلت لها: خذى هذه تذكارا لما كان بيننا، ولا تنسي أيام سرورنا. فقالت: سوف تعلم الأيام أني لا أخون حبك ولا أنقض عهدك ولو نقضته أنت، وسأضع هذه الصورة أمام عيني أتطلع إليها كل ساعة وإن كانت مرسومة في فؤادي، وسأعطيك صورتي قبل سفرك، وأحتمل المصائب في غيابك، وإن كنت تحبني فعد إلي.
وفي هذا الوقت جاء الخادم ودعانا إلى الذهاب لمقابلة البك، فأخذت بيد سكينة إلى أن وصلنا إلى قاعة الجلوس وهناك وجدنا والدها جالسا، فحين رآني أخبرني أنه استعلم عن قيام البواخر من السويس، وعلم أن إحدى بواخر الشركة الخديوية تقلع من المينا الساعة العاشرة صباحا من يوم السبت، وقد اشترى لوازم السفر من جعبة وملابس، ثم أعطاني ريفلفرا وعلمني كيفية استعماله، ووضع لي مبلغا من المال في سقط، وقال لي: «إن هذا المبلغ جميعه قد تركه والدك، وهذا الكتاب - وناولني إياه - هو وصية من أحد كبار المصريين إلى أمير جدة؛ ليوصلك إلى مكة سالما، وهذا كتاب وصية آخر إلى قبودان الباخرة. ومتى وصلت إلى مكة فاجتهد في البحث على شقيقك حتى تعثر عليه، وعندك من المال ما يكفيك سنين، وإذا احتجت لغيره فاكتب إلي وأنا أرسل لك بأية طريقة كانت، وداوم على إرسال الخطابات فإن القليل منها يصلنا، والله خليفتنا عليك.
الفصل السادس
وقائلة لما أردت وداعها
حبيبي أحقا أنت بالبين فاجعي؟!
فيا رب لا يصدق حديث سمعته
لقد راع قلبي ما جرى في مسامعي
وقامت وراء الستر تبكي حزينة
अज्ञात पृष्ठ